حين يبدر عن زعيم تركي قوله إن التحفظ الأوروبي عن قبول تركيا في الاتحاد القاري عائد إلى ممانعة "هذا النادي المسيحي" في انضمام "بلد مسلم" إليه، فمن يكون القائل؟ ليس نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه، بل مسعود يلماظ زعيم حزب الوطن الأم وخليفة أربكان على رأس الحكومة، وغريمه في اعتناق الخيار العلماني القومي. لقد استذكر الرجل فجأة إسلامية بلده من أجل سوق تبرير مغلوط، ومع مخالفة مطامحه في عقد روابط علمانية مع الغرب وما تقتضيه هذه الروابط من عدم اللجوء إلى تفسيرات دينية لدى نشوء خلافات. وبمعنى ما فقد استيقظ لديه وعلى طريقته الخاصة، جانب من هويته وتململت جذوره وهو أمر طبيعي يحدث للناس جميعاً. غير أن صاحب هذه اليقظة المفاجأة لم يختر سوى الظرف الخطأ لإعلان يقظته التي جرت في معرض السعي للاندراج في مدار اقتصادي واقليمي، فكيف يكون ابتعاث الفوارق والاصول وتظهير وتكبير هذه وتلك، مقدمة للاندماج؟ وما دام الاتحاد الأوروبي محض نادٍ مسيحي وتركيا مجرد بلد مسلم، فما منطق السعي التركي للانضمام للاتحاد الأوروبي؟ إنها أحابيل الهوية حين تزين لبعض أصحابها امكانية استخدامها ذخيرة دفاعية أو هجومية للتمويه على المشكلات ثم تبريرها. فالتحفظات الأوروبية عن الموقف التركي من عدم قبول التحكيم أمام محكمة لاهاي لحل النزاعات الحدودية ومن وحدة كيان جمهورية قبرص ومن المفاوضات مع الجار اليوناني وسجل حقوق الإنسان المسلم، التركي والكردي يجري الرد عليها بأنها أمور خاصة بالهوية الإسلامية وليست بالرؤى المرتسمة والسياسات المتبعة في هذا البلد. وهذه فحوى محاججة المسؤول التركي الذي يأخذ على سلفه أربكان إفراطه في أسلمة خياراته السياسية والايديولوجية رغم ان الأخير لم يخاطب الاوروبيين بصفته وصفاتهم الدينية كما فعل يلماظ، وكان يؤمن بتعددية الروابط الخارجية مع توجيه الأولوية للعالم الإسلامي خلافاً لرئيس الوزراء الحالي الذي يدير ظهره للمحيط العربي والإسلامي ويناهض الأوروبيين، ثم يقوده الشعاع المنبعث من هويته "الإسلامية" الكامنة ومن الأمجاد الامبراطورية الغائرة الواجبة الانبعاث إلى التحالف مع إسرائيل. لقد أثبتت السياسة التركية حتى الآن اضطراب وضعف أهليتها للتساوق مع القيم الليبرالية التي يعتنقها الغرب الأوروبي، وأثبتت من جهة ثانية وبصورة تبادلية مع العالم العربي عدم القدرة على التفاعل مع المحيط الاقليمي والجغرافي. فهل يعود ذلك إلى الحيرة والتردد أم إلى انتقائية متعالية، أم إلى قصور النظر وردود الفعل والانتقام من التاريخ؟ الغالب أن هذه العوامل التي يشارك فيها العالم العربي ليست كافية وحدها لتفسير هذا الاضطراب الممتد، فالعرب يبحثون عبثاً عن موقع لهم في المدار الأميركي والدولي، والأتراك يفتقدون الجاذبية في المدار الأوروبي، فيندفعون معاً أمام ذلك إلى التناطح والانتقام المتبادل عوض استكشاف المصالح العميقة بينهم والتي تمتد لتجمعهم بإيران واليونان، ولا يسعهم في الاثناء إلا التثبيت التاريخي على الهوية وعلى الخروج منها ثم العودة إليها عند الاقتضاء! وبذلك فهم يعقدون علاقات لا تتسم بالصداقة ولا العداء ولا حالة البين بين، بما يتناسب في المحصلة مع الوزن الفعلي للكتلتين التركية والعربية في صياغة مصير المنطقة وتوجيه السياسة الدولية في الاقليم.