"لم نأتِ الى هنا لنتحدث، انما جئت لأرى، وأخشى أن أقول كلمة". بهذه الكلمات تفوّه المخرج السينمائي الكبير يوسف شاهين امام حشد من مستقبليه في بغداد يوم الأحد الماضي، وهو يزور العاصمة العراقية ضمن وفد نقابي مصري كبير ضمّ فنانين كثيرين، يحملون معهم نحو نصف مليون توقيع انسان مصري يطالبون برفع الحصار. وصل الوفد المصري عبر الطريق الصحراوي الوحيد الذي ظل يربط العراق بالعالم الخارجي طوال سنوات الحصار، وهو طريق بغداد - عمّان، يحمل معه كميات من الادوية الى اطفال العراق. ولا شك في ان "كلمة" يوسف شاهين، تعني فيلماً سينمائياً. فمئات الكيلومترات والساعات الثقيلة التي قطع فيها الصحراء كافية لأن تستثير مخيلة فنان لانتاج افلام وليس فيلماً واحداً. ناهيك عن مشاهد البؤس والشقاء التي وقف عليها ليطّلع على آلاف العراقيين المشردين في شوارع عمان يبحثون عن لقمة خبر، او آلاف مثلهم يفترشون نقاط التفتيش الحدودية في طريبيل والرطبة في انتظار ادوارهم خارجين او داخلين من العراق وإليه. بديهي ان الوفد المصري لم ينتظر في الحدود كما ينتظر العراقيون، ولم يتوسل بشرطي او مفتش كي يسمح له بادخال هذه الحاجة او تلك كما يتوسل العراقيون ببعضهم وبإذلال لا نظير له. فالوفد جاء ليخدم في النتيجة النظام اعلامياً شاء ام أبى وإن تذرع بالدوافع الانسانية. وليس هذا ما يخيف الشعب العراقي، انما الذي يخافه هو ان يخرج مخرج الروائع بپ"حدوتة عراقية" هذه المرة تحكي قصة البطل العربي الصامد بوجه الاميركيين الحاقدين على غرار "الناصر صلاح الدين"، او تبرئه مما انزله بالعراقيين من كوارث. قطعاً ان مصير فيلم كهذا ليس كپ"المصير" الحائز على الجوائز والاهتمام. فقبل سنين قال توفيق صالح كلمته في "الأيام الطويلة" التي دوّنها كاتب مرتزق وتحكي اياماً لا وجود لها في حياة صدام حسين. وبعد سنين يأمر "المُحدِّث" بقتل بطل فيلمه صدام كامل اخ حسين كامل ويدسّ الثاليوم لراويته عبدالامير معلّة فيموت في الخمسينات من عمره في بغداد قبل بضعة اسابيع وينزوي الفيلم بعيداً في الرفوف العالية من ارشيف الاذاعة والتلفزيون، بعد ان ملّ العراقيون كثرة مشاهدته سنوياً حينما تحلّ ذكرى محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم في اواخر 1959. يوسف شاهين الذي سيرى مشاهد الفجيعة في العراق، عليه ان يسأل اصحابها عمّن فعل بهم هكذا؟ مَن الذي سبب لهم هذه المأساة؟ ولماذا هم يدفعون الثمن بينما الطاغوت يحتمي بقصوره وحصونه؟ ولا شك انهم سيجيبونه بأن اميركا السبب، بينما يضمرون في قرارة انفسهم جواباً آخر. وببساطة انهم لا يستطيعون التفوه ولو بكلمة. وما العجب!؟ اليس يوسف شاهين نفسه من لم يستطع ان يقول في مصر كلمة عن "المصير" فقالها في مدينة كان الفرنسية؟ ورغم ذلك شتّان ما بين مصر والعراق. فيوسف شاهين ان لم يستطع ان يقول كلماته افلاماً لصعوبة التمويل والانتاج اخشى ان يتبرع صدام بأموال الشعب لتمويل فيلم جديد فانه يقولها لقاءات. فقبل ايام شاهدته في برنامج بثته قناة شبكة الاخبار العربية اي. ان. ان الفضائية، حيث قالت له الصحافية التي اجرت اللقاء معه، ان هذا اللقاء سيتعرض الى مونتاج. فأجابها شاهين على الفور: "اياك اياك ان تقطعي حاجة منه. ولو قطعت حأخرب بيت ابوك"! انني اتمنى على الاستاذ الكبير في ما لو قال كلمته عن العراق ان لا يقطع مشهد ما قلناه من مشاهد فيلمه، لأنه لو فعلها لا سمح الله فان بيوت العراقيين هي "اللي حتتخرب" هذه المرة.