سيتطوع الكثير من العلمانيين لمحاولة اظهار ما جرى في تركيا من حظر لحزب الرفاه، على انه حال شاذة ومعزولة ولا تمثل سلوكاً ومنهجاً للعلمانيين ضد الاسلاميين. ولكن لسوء طالع هؤلاء فقد تكاثرت الدلائل والوقائع التي تؤكد ان الديموقراطية تبقى محترمة ومقدرة لدى العلمانيين طالما ابقتهم في الحكم وفي مواقع السيطرة والهيمنة، وانها تنقلب ديكتاتورية مقيتة وتجاوزاً صارخاً لحقوق الانسان الأساسية، اذا شعر هؤلاء بالمنافسة الشديدة من الاسلاميين على الأخص على مواقع الحكم والقيادة، ولا تقتصر هذه الدلائل على حالات الصراع والتنافس الواضح على الحكم كما في الجزائروتركيا، ولكنها تمتد الى مسلكيات العلمانيين في الاطار المجتمعي. فالعلمانية هي التي سمحت بمحاكمة المفكر المسلم روجيه غارودي لمجرد انه تجرأ وعبّر عن أفكاره وآرائه في حادثة تاريخية مع انه لم يمارس أي فعل مناف للقانون وفقاً لآرائه وأفكاره، وهي نفسها التي تجرأت على منع المرأة المسلمة المحجبة من العمل في الدوائر الرسمية والمدارس في فرنسا مع ان حرية اللباس هي أيضاً من مبادئ الديموقراطية! والدولة العبرية التي تحكمها أحزاب علمانية تضرب يومياً عرض الحائط بكل المبادئ الديموقراطية طالما تعارضت مع مصالحها، بدءاً بهدم بيوت الفلسطينيين وليس انتهاء بتشريع التعذيب في سجونها ومعتقلاتها. ولا يفوتنا التنويه ان السبب الحقيقي للموقف المعارض لأميركا والغرب لما حصل في تركيا يرجع الى التخوف من انفجار الوضع التركي ولجوء الاسلاميين الى استخدام العنف للتعبير عن منعهم من ممارسة العمل السياسي على قدم المساواة مع غيرهم، وما يمثله ذلك من مساس مباشر بأوروبا وتأثير سلبي على المصالح الأميركية في المنطقة. وبمعنى آخر فإن معارضة أميركا والغرب لقرار العسكر في تركيا ليست معارضة مبدئية ومن أجل عيون الديموقراطية وحرصاً عليها بقدر ما هي محاولة لتلافي سلبيات انفجار الوضع التركي على المنطقة بأسرها. فقد حظي عسكر تركيا بدعم مستتر من الغرب في محاولاتهم المستمرة لاسقاط حكومة أربكان الائتلافية حتى تم لهم ذلك، مما يعني ان قرار حظر حزب الرفاه لا يشكل قراراً داخلياً انفرد به متطرفو العلمانية في تركيا وانما هو حصيلة تواطؤ دعاة العلمانية والديموقراطية في الغرب. ان ما جرى في تركيا وقبله في الجزائر، يستدعي ان نعيد صياغة الادعاءات الأميركية بأن الاسلاميين يستغلون الديموقراطية حتى ينقضوا عليها بعد الوصول الى الحكم، فالصحيح هو ان العلمانيين انفسهم يتمترسون خلف الديموقراطية ويحاولون صياغتها لتخدم تطلعاتهم ورغباتهم الجامحة في الاستمرار في الحكم حتى ولو كانت الحال الشعبية ترفضهم. وبعيداً عن الصورة التي يحاول هؤلاء ان يرسموها للاسلاميين بأنهم أعداء الديموقراطية ودعاة للعنف، فإن الوقائع تؤكد باستمرار ان البادئين بالعنف كانوا دوماً غلاة العلمانية حتى ولو لم يستخدموا القوة المادية، فمنع جهة معينة من ممارسة العمل السياسي لمجرد انها تحمل آراء فكرية مخالفة يشكل عنفاً معنوياً وسياسياً أكثر فتكاً وتأثيراً من العنف المادي الذي ليس الا ردة فعل آنية على العنف المعنوي والسياسي! ان التقاليد الشورية والديموقراطية هي تقاليد راسخة وثابتة في عقيدة التيار الاسلامي الأوسع الذي يعبر عنه الاخوان المسلمون. وهي التي عبر عنها نائب المرشد العام مأمون الهضيبي حينما أكد مؤخراً ان "فكرة الخروج على الحاكم مرفوضة تماماً، وان السلاح الوحيد ضد الحكومات الظالمة هو الدعوة بالتي هي أحسن لأننا ضد استخدام العنف وبأي وسيلة كانت". وحتى في حال العنف في الجزائر التي يتهم بها الاسلاميون ورغم شذوذها ومحدوديتها، فإن المؤشرات الأخيرة بدأت تؤكد ان العلمانيين متورطون الى حد كبير في العنف الأعمى الذي يعصف بهذا البلد، الأمر الذي يؤكد ان العلمانيين وليس الاسلاميين هم من يفترض ان يكونوا في قفص الاتهام بعدم احترام مبادئ الديموقراطية والتعددية. ان الفزّاعة التي تثار حول العنف المحتمل للاسلاميين في حال التضييق عليهم ثبت انها مصطنعة، وتدحضها امثلة واقعية على رأسها موقف "حماس" كمعارضة اسلامية من السلطة الفلسطينية، وحال التعايش مع الحكم في كل من مصر والأردن، وكذلك الأمر بالنسبة لردود الفعل المنضبطة لحزب الرفاه على القرار الأخير، حيث يؤكد الاسلاميون مرة تلو الأخرى انهم الأحرص من غيرهم على الديموقراطية وعدم تجاوز قواعدها. واذا كان هذا الاستنتاج سيؤدي الى اسالة لعاب العلمانيين نحو المزيد من التضييق على الاسلاميين وممارسة اساليب الحجر السياسي عليهم بحجة ضمان محدودية رد فعلهم، فإنه من جهة اخرى سيعزز القناعة الشعبية بسلامة وصدق منهج الاسلاميين، وهذا هو الأهم في رأينا، لأن الجماهير في النهاية ستكون الحكم والفيصل!