بالطبع ليست "نهاية العالم"، وفقاً لتعبير الرئيس التركي، ان يحلّ حزب الرفاه الإسلامي. ولكنها بالتأكيد نهاية أحد الأوهام الكبيرة التي بنيت عليها "الديموقراطية العسكرية" في تركيا. إذ أن الغاء "الرفاه" لا يلغي الرفاهيين، وإذا الغي الاسم الجديد الذي يتخذونه فهذا لا يعني الغاءهم. الخيار الوحيد أمام العسكر هو الإبادة الجسدية لكل من هو غير علماني، مثلما ان الخيار الوحيد أمام العسكر الاسرائيلي هو ابادة الشعب الفلسطيني للانتهاء من قضيته. لكن الخيارين يصطدمان باستحالة. صحيح انهما ممكنان عسكرياً إلا أنهما مستحيلان عملياً لألف سبب وسبب. وفي أي حال، لم يكن اغراء "الابادة" بعيداً عن العقل "الحاكم" هنا أو هناك. ففي رصيد اسرائيل بضع مئات من القرى والبلدات الفلسطينية التي ابيدت مادياً ومعنوياً. وفي رصيد تركيا عدد مماثل من القرى والبلدات الكردية، وهو هذا العقل ذاته الذي يتعامل بالسياسة مع مختلف الفئات. اذ سبق للأحزاب العلمانية أن عانت الكثير من العسكر التركي، مع أنها لا تختلف معه حول النظام، وها هم الاسلاميون يتواجهون معه في معركة غير متكافئة بطبيعة الحال لكنها بالغة الخطورة بكل المقاييس. بقي من الشهور القليلة التي ارتقى فيها زعيم "الرفاه" الى رئاسة الحكومة التركية، انه استطاع ان يبرهن على احتمالات عدة. فهو تحالف مع أهم حزب في معسكر العلمانيين، ومارس معه السلطة المدنية بحد أدنى من التوتر والخلاف، وكان في هذه التجربة الكثير مما يثري "الديموقراطية" التركية. كما أنه أكد إيماناً بالدولة ومصالحها وأولويتها على مختلف المؤسسات، متحملاً أحياناً كثيرة غضب أنصاره وخيبة أملهم. والأهم من ذلك أنه تمكن من ابلاغ الخارج ان لتركيا وجهاً آخر غير الذي اكتسبته مع العسكر. وحتى على الصعيد الداخلي كان تحالف الرفاه - الطريق القويم بداية عملية طويلة ومعقدة ل "مصالحة" الشعب مع الدولة، إلا أنها أجهضت قبل أن تبلور رؤية ثابتة. وبمعزل عن كونه اسلامياً، ظل ملفتاً حرص "الرفاه" على أن لا يرتكب اخطاء أساسية من نوع استفزاز العسكر وتوفير مشروعية لأي انقلاب يفكرون فيه. وباستثناء التنافس السياسي بين الأحزاب على فك ذلك التحالف وازاحة "الرفاه" عن واجهة السلطة، فإن هذا الحزب لم يفتعل أي مشكلة تساهم في افساد الجو السياسي، حتى أنه ذهب في البراغماتية الى أقصى حد عندما تغاضى عن "مؤسسة فساد" التي تحظى بحماية العسكر ورعايتهم... على العكس مما يمكن توقعه جاءت الاشكالات والارباكات دائماً من الجيش الذي لم يرض بأن ينافسه أي حزب على نفوذه. وهكذا يتضح ان خطأ وحيداً ارتكبه "الرفاه"، وهو وجوده نفسه. إذا كان العسكر محدود الخيارات الفكرية، ويتخذ من العلمانية شعاراً يبرر وضعه يده على الحياة السياسية في تركيا، فإن الأحزاب المدنية العلمانية تبدو راضية بهيمنة العسكر لأنها وسيلتها الوحيدة للبقاء في الحكم بلا أي منافس. لكنها مدعوة في كل وقت الى توضيح هذه "الديموقراطية" التي تدعيها، ليس فقط لحسم موقفها من "الحال الاسلامية" في البلاد وانما خصوصاً لمواجهة الخيارات المستقبلية لتركيا. وفي هذا السياق يبدو حل حزب "الرفاه" انتصاراً للوبي الاسرائيلي في الجيش والمخابرات والدولة أكثر مما هو انتصار للمعسكر العلماني بكل فئاته. فهل ترتضي أحزاب تركيا هذه الهيمنة الآخذة في الاتساع؟ ولمجرد ادامة بقائها في الحكم؟