المؤلف: جورج أورويل المترجم: سعدي يوسف الناشر: دار المدى - دمشق 1997 عرف الروائي جورج أورويل في اللغة العربية من خلال روايتيه "مزرعة الحيوان" و"1984"، وهما الروايتان اللتان صنعتا شهرته عموماً. وبحسب الشاعر سعدي يوسف فان تقديم اورويل بهاتين الروايتين جاء "على مقاس الحرب الباردة"، وان اكتمال صورة هذا الروائي لا يكون من دون الاطلاع على رواياته التي ترتبط بفترته اليسارية، المديدة، الجميلة، وهي "أيام بورمية"، و"ذكرى كاتالونيا"، و"متشرداً في باريسولندن"... وفي هذه الاخيرة - التي ترجمها الشاعر - الى جانب ما تقدمه من فن، ثمة "لوحة عجيبة لما لحق بالانسان البسيط من ظلم فادح، تحت وطأة رأسمالية شرسة، رأسمالية العقد الثالث من قرننا المرتحل". رواية أورويل هذه تتخذ شكل وأسلوب يوميات السفر، يتقمص فيها الكاتب شخصية متشرد لا يطمح الى اكثر من قوت يوم أو أيام قليلة، متشرد يعايش المتشردين ويتأمل في سلوكاتهم ويسمع - ويروي لنا - حكاياتهم الطريفة والغريبة، ويضطر الى القيام بأعمال عدة في فندق أو مطعم كافتيريا كغاسل صحون، ويسجل من حياة هؤلاء تفاصيل مثيرة للدهشة وللألم ايضاً. ربما لا يهم القارئ ان يعرف المدى الذي ذهب اليه الروائي في المعايشة الحقيقية لهذه العوالم من البؤس والانسحاق، لكن من الواضح انه ملم بهذه العوالم الماماً يكفي ليقدم صورة معمقة وشاملة وصادقة عن هؤلاء "البؤساء" الذين لم يتناولهم الأدب من قبل. وما بين باريسولندن، في مرحلة ما بن الحربين العالميتين، يتجول أورويل ويغوص في بيئات شديدة البؤس والقذارة و... التعقيد. التعقيد الذي يغدو، بين يدي الروائي، مادة للتأمل والتشريح والتفكيك، وليس فقط للوصف الخارجي، ولا للحوادث العابرة. ثمة تأملات رشيقة وعميقة في ظواهر تعيشها احياء البؤس والشقاء، وسكان هذه الاحياء، وفي ظاهرة التشرد بالمقارنة مع بعض الاعمال، وفي ظاهرة الجوع وما يمكن ان يفعله، والبطالة وما تؤدي اليه، والملاجيء العابرة سبايك وما هي عليه وما يمكن ان تكون عليه... الخ. تبدأ رحلة المتشرد من "درب الديك الذهبي" في باريس، منذ السابعة صباحاً، حيث "المشاجرات، وزعقات الباعة الجوالين، وصيحات الأطفال وهم يتتبعون قشور البرتقال..". وحيث احياء باريس الفقيرة مجمع للناس غريبي الاطوار، الناس الذين سقطوا في "مهاوٍ للحياة، منعزلة، شبه مجنونة، وتخلوا عن محاولة ان يكونوا عاديين أو معقولين. لقد حررهم البؤس من المقاييس المألوفة للسلوك، تماماً مثلما يحرر المال الناس من العمل...". ويتخذ اورويل من هذا الحي، وغيره من الاحياء القذرة "درساً موضوعياً، مادة دراسية للبؤس"، مثلما يتخذ من العمل في احد فنادق باريس مادة لدراسة مراتب العاملين في الفندق من نادلين وطباخين وغاسلي صحون، وللقوانين التي تحكم عمل كل فئة منهم، ولكل القذارات والسفالات وأشكال التحايل التي يلجأ اليها اصحاب العمل للابقاء على العامل عاملاً. ويفضح الكاتب مقدار الغش الذي يتعرض له زبون الفندق، ومقدار الغبن الذي يصيب العامل الذي يضطر للعمل ساعات تزيد عن الاربع عشرة ساعة يومياً، في اعمال لا ضرورة لها. وفي تأمله لحياة غاسلي الصحون - مثلاً - يتحدث عن نماذج أساسية تقدم صورة واضحة عن هذه الفئة من البشر. فالحياة الانموذجية لغاسل الصحون جد بسيطة "انه يعيش في وتيرة بين العمل 17 ساعة في اليوم والنوم، بلا وقت للتفكير، وبلا وعي بالعالم الخارجي... ومن بين هذه الامور تكون للنوم المنزلة الأولى". اما العلاقة الغريبة التي يرسم الكاتب ملامحها فهي بين غاسل الصحون والمثقفين الذين يقفون في صف الاغنياء لأن قليلين جداً من "المثقفين يكسبون أقل من أربعمائة باوند مثلاً في العام" وهو مبلغ كبير طبعاً. ولهذا فهم يتصورون ان "أي حرية يتنازل عنها للفقراء هي تهديد لحريتهم، ولأن الرجل المثقف يرى اليوتوبيا الماركسية البغيضة بديلاً من هذا، فهو يفضل الابقاء على الامور كما هي". ثم ان المثقفين الذين يفترض "ان يحملوا آراء ليبرالية، لا يختلطون بالفقراء. ماذا يعرف غالب المثقفين عن الفقراء؟" كما ان الجوع "جدّ غريب على تجربة المثقف". فغاسل الصحون كبائس وفقير هو شخص خطير، ولهذا يجب ان يظل محتجزاً في العمل "والمثقفون الذين يجب ان يقفوا الى جانبه، مذعنون، ذلك لانهم لا يعرفون عنه شيئاً، وبالنتيجة يخشونه". وهذه الافكار التأملية التي يقدمها اورويل هي مجرد "نماذج للأفكار التي تخطر ببال المرء حين يعمل في فندق". ويعرض الكاتب المتشرد لما يظهر في حياة المتشردين وغاسلي الصحون من اسرار ومن معارك واختلافات. ويتناول العرب والزنوج والروس والبولنديين، ويتوقف عند بعض الشيوعيين، ويحكي قصة احتيال قام بها محتالون باسم جمعية سرية روسية، كما يروي حكايات وأمثالاً عن قذارات اليهود وبخلهم، ويدعونا للتأمل في ما يدعوه شبكة الاكاذيب المثقلة بالبؤس، وضجر البؤس، والثواب العظيم للبؤس، والعزاء العظيم في البؤس. وهذا كله في باريس التي ترى فيها عبارة - شعار "حرية، مساواة، اخاء" على كل شيء حتى مراكز الشرطة. اما لندن التي يقول الكاتب، قبل ان يدخلها، ان "من المستحيل الى حد بعيد ان يجوع المرء في لندن فسوف تبدو اقسى من باريس، بدءاً من ملاجئها العابرة، وبيوت اقامتها الرخيصة والقذرة، وحتى كنيستها التي تقدم بعض المساعدات، وصولاً الى اللغة الدارجة فيها وسُبابها، التي تتغير باستمرار من دون ان تجد باحثاً رصيناً يرصد تكوّن الكلمات وتطورها وزوالها. اما التشريعات الخاصة ببيوت الاقامة الخاصة، فهي دائماً لمصلحة المالك لا المتشرد الذي يأتي ليستأجر سريراً أو فراشاً. فليس هناك قانون يقضي بأن تكون الافرشة مريحة مثلاً، اذ "سوف يعارض اصحاب بيوت الاقامة، طبعاً، اي تحسين، لأن تجارتهم الآن رابحة ربحاً فاحشاً". وعلى رغم عدم خطورة المتشردين، فان ثمة ثلاثة شرور تلاحق هذه الفئة من البشر: الشر الأول هو الجوع، والثاني هو الانقطاع عن العلاقة بالمرأة حيث يندر ان يجد المتشرد امرأة متشردة يعيش معها أو يتصل بها و"الجوع الجنسي يوهن المعنويات، كالجوع الجسدي"، انه يجعل الانسان يتدهور جسدياً وروحياً. والشر الثالث هو البطالة الاجبارية. هذا عدا البؤس والمشقة. فيما عدا ذلك فالمتشرد انسان طبيعي. والمتسول كذلك لو كان يعرف كيف "يكسب" كما يكسب اصحاب الاعمال المرموقة، فالفارق الوحيد هو فيما يكسبه الانسان، وليس في كيفية الكسب! وهنا نستطيع ان نلمس بوضوح الرؤية المتقدمة والانسانية، الرؤية التقدمية الى القوى والصراعات والهوامش التي تجري في الحياة... الرؤية التي يقدمها لنا أورويل في حكايات وتأملات وليس في تنظيرات. انه يقدم نماذج حية للبؤس والمعاناة ليقول ان الرأسمالية موجودة في باريس كما في لندن، وأي مكان آخر ربما. وهؤلاء هم الضحايا، ما دام ثمة من يحتكرون ويتحكمون ويصادرون. قد لا تكون هذه الرواية مكتوبة بشروط وقوانين الرواية المألوفة، وهذا أحد عناصر تميزها. لكنها، كما ارادها المؤلف في قوله "لا آمل الا في انها كانت ممتعة، شأن يوميات السفر". كل هذا، وهو يشعر بأنه لم يعرف من البؤس الا حافته. ولكنه بعد ذلك كله لن يفكر بأن كل المتشردين هم اوغاد سكيرون، و"لن اتوقع ان يكون متسول ممتناً حين اعطيه بنساً، ولن يدهشني ان يكون العاطلون يفتقدون الطاقة على العمل... ولن ألتذ بوجبة في مطعم فاخر. انها لبداية". فما النهاية اذن؟