محمد السعد لم يعرف التاريخ البشري مدينتين تبادلتا التأثير والتأثر في أغلب مراحل تطورهما، في عنفوان الثراء والمجد وقاع البؤس والفقر مثل باريسولندن، عاصمة النور وعاصمة الضباب. مدينتان كان لهما سحر متبادل في قرون انهيار الكنيسة والإقطاع حتى عصر الحداثة والعلم. باريسولندن أو لندنوباريس، قطبا الحداثة والثورة، عاشتا حالة من التجاذب والتنافر وتقاسمتا المصير المشترك في رحلتهما إلى عصر الحداثة عبر تأثرهما المشترك بحقب التنوير وحرب الإيديولوجيات، وكأنهما دولة واحدة وشعب واحد مع اختلاف اللغة واللسان، ومع هذا لا تزال العلاقة مشوشة فلا هي علاقة حب ووئام ولا هي علاقة مقت ونزاع، فهي مزيج من كل المشاعر والمُثُل، لذلك كانت العلاقة بين باريسولندن علاقة استثنائية على الدوام. كانت لندن ناشطة تماما كباريس، في تطوير وتحليل ومناقشة كل الأفكار والمفاهيم التي كونت ما يعرف بعصر التنوير، كما أن باريس كانت ناشطة كلندن في نزعتها الإمبريالية التي جعلتهما في تنافس محتدم في سبيل كسب أكبر قدر ممكن من المستعمرات، فكانا طرفي نقيض في حرب السنوات السبع، كما كانا طرفي نقيض في دراستهما للشرق ورحلاتهما الاستشراقية الممهدة للاستعمار الطويل والمضني. استحوذت لندنوباريس على نصيب الأسد في عوالم الأدب ما بين القرنين الثامن عشر والعشرين، فكانتا مسرحا لأحداث البؤس والشقاء والجوع والعوالم الخلفية للجريمة والرذيلة والعنف، فتصدرت باريسولندن عناوين روايات عالمية مثل (متشردا في باريسولندن) لجورج أورويل، (قصة مدينتين) لتشارلز ديكنز، (أسرار باريسولندن) لريتشارد ماكسويل، فقد كان هؤلاء الأدباء الكبار يدركون جيدا القواسم المشتركة بين المدينتين، كما يدركون جيدا أوجه الاختلاف بين المدينتين. في هاتين المدينتين برز دور المقاهي الأدبية، وهي أحد التعبيرات العبقرية لهما، ومنها خرجت تيارات أدبية وفكرية بارزة، لذلك تميزت هاتان المدينتان بأنهما رافدان مهمان من روافد الثقافة العالمية، كما أنهما منبعان منفردان في عالم الأزياء والموضة، فهما بكل جدارة واستحقاق المصدر الأهم للموضة المتعددة والمتجددة. نشأت رقصة الكانكان الفرنسية في لندن، وشخصية شيرلوك هولمز الإنجليزية مستوحاة من شخصية فرنسية، والتنوير الباريسي تأثر بالتنوير اللندني والعكس صحيح تماما، والاضطرابات الشعبية هنا وهناك قد استلهمت شعاراتها ومفاهيمها بشكل تبادلي لا يرجح طرفا على آخر، حتى وصلت كلتا العاصمتين إلى ضفاف الحرية والإخاء والمساواة، التي شعارها المقصلة، ذاك الكائن المخيف الذي وجد له مكانا في باريسولندن. المقصلة! وما أدراك ما المقصلة؟ إنه المخلوق الذي ينفث الموت ويبث الرعب، فقد كان حاضرا في رواية البؤساء للأديب الباريسي فيكتور هيجو، كما أنه كان حاضرا في رواية قصة مدينتين للندني تشارلز ديكنز، مع وصف دقيق ومفصل لروح هذا الكائن المخيف الذي كان له دوره البارز في تحريك عجلة التطور التاريخي لهاتين المدينتين. كان التنافس ولا يزال محتدما بين باريسولندن، فهما الأكثر جذبا للأثرياء والسياح العرب، كما أنهما جاذبتان لعشاق المسرح والمتاحف من كل بقاع العالم، وفيهما ما لا يعد ولا يحصى من دور النشر والصحافة الحرة، وفيهما يجد المناضلون واللاجئون فضاء مفتوحا بلا رقيب على أفكارهم وآرائهم، فلا توجد عاصمة تتساهل مع حرية الرأي كما هو الحال مع باريسولندن. بين باريسولندن الكثير من أوجه الشبه وأوجه الاختلاف، هما يشتركان في القبح والجمال وفي الفقر والثراء وفي الظلم والعدالة، فهما مدينتا المتناقضات والمتشابهات على حد سواء، تجتمعان وتفترقان في كل طريق وعند كل حديث، فيهما تتشابه حياة الكنائس والأديرة والقصور الأرستقراطية، وتتشابه أيضا حياة الملاجئ والسجون والشوارع الخلفية المليئة بالمشردين.