اطروحة المثقف والسياسي ليست اطروحة مفتعلة. الدليل على ذلك ان المعارك الادبية التي تدور رحاها على الأرض العربية هي معارك سياسية، والاخيرة منها معارك الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب او هكذا هو اسمه التي لا معنى ثقافياً لها سوى انها انعكاس للحروب والخلافات السياسية المحتدمة بين القوى والاحزاب. لست ادعو لتفريغ المثقف من معناه السياسي. فالمثقف كائن اجتماعي، ربما يمتلك اولوية في الوعي السياسي ومن حقه، ومن واجبه احياناً، ان يتخذ موقفاً سياسياً. ولكن هذا كله مختلف عن ان يتحول المثقف، والمبدع بشكل خاص من المثقفين، الى محارب سياسي ينوب عن جهات وقوى تتخاصم اعلامياً وسياسياً فتزعل وترضى محققة اطروحة ونستون تشرشل التي أضافت الى الميكافيلية مقولة عصرية هي لاعداوات ولاصداقات دائمة في السياسة. ما هو معنى وجوهر الابداع اذا كان وجهاً مباشراً من وجوه السياسة وسلطة تنفيذية لبرامج الاحزاب؟ بطبيعة الحال، لا احد يستطيع ان يلوم المثقف العربي الذي يحمل ايماناً بمصالح وطنه او امته في ان يكون عضواً في منظمة سياسية ولا يستطيع ان يصادر حقه في ان يكون من النشطاء السياسيين، فحتى عمرو بن كلثوم تفاخر بقبيلته كما يتفاخر شاعر بحزبه حين قال: اذا بلغ الفطام لنا صبي تخرّ له الجبابر ساجدينا ولم يكن عمرو بن كلثوم أول ولا آخر شاعر فاتك من شعراء وفتاك العرب وهو الذي قتل عمرو بن هند ملك الحيرة في مجلسه انتصاراً لنعرة تغلب القبلية. فشعراء المعلقات كلهم من فرسان العرب وفتاكهم، حتى الحارث بن حلزة الذي انشد معلقته قائماً على قوسه وهو يرد على عمرو بن كلثوم منتصراً لقومه على تغلب. اما معلقة زهير بن أبي سلمى فكانت مدحاً لهرم بن سنان والحارث بن عوف اللذين تحملا ديات القتلى في حرب داحس والغبراء، وبهذا المعنى لم تبتعد عن السياسة القبلية التي كانت سائدة آنذاك. وبتطور المعنى السياسي وتطور مراحله تطورت الاغراض الشعرية وبقي الشاعر ينتصر لقبيلته او جماعته، وما شعراء الخوارج الا نمط مميز من انماط الشاعر السياسي في التاريخ الشعري العربي. لن يفصل الناقد الادبي الشعر عن السياسة الا بتعسف واضح. والشاعر، "الكائن الفرد" الذي يلح النقد الادبي على توصيفه بذلك لاعطاء ذاته الشعرية الدافع الأول للشعر، يتحول الى بوق للجماعة. وإذا كان ماركس وانغلز قد ردا شعر الشاعر الألماني هاينة واعتبروه بوقاً لسياسة جماعة المانيا الفتاة، فان الظاهرة لا تقتصر على شعر لغة دون اخرى. ومع هذا فان الظاهرة التي ما تزال بارزة في الحياة الشعرية العربية هي سيادة الاتجاه السياسي في الشعر. وجمهور الشعر السياسي يفوق جمهور اي اتجاه او موضوع شعري آخر. شعر قضية. هذا هو الذي ما يزال مطلوباً من الناس. تلك حقيقة لا يستطيع احد انكارها او الترفع عن الاعتراف بها. لكن ما الذي يجعل الجمهور الادبي جمهوراً سياسياً. فحتى الآن ما يزال الشاعر العربي مطالباً بأن يتابع احداث فلسطين بعد اتفاق اوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية واللقاءات الاسبوعية المتكررة بين عرفات ونتانياهو وظهور مشكلات السلطة والأمن الوقائي في مناطق السلطة الفلسطينية ويكتب عنها كما كان يكتب عنها العام 1948 والعام 1967 ليكون شاعراً مقروءاً ومعترفا له بالشاعرية والقومية. هل الشاعر العربي ملزم بأن يكون بوقاً للسياسة كما كان صاحب البوق يعلن في ميدان كل قرية ومدينة عربية اخبار السلطان واجراءاته وفرماناته؟ هل على المواطن العربي ان يتخلى عن روحيته لكي يظل، كما كان، مواطناً مرهقاً بالضرائب التعسفية والسياسية الاستبدادية والبحث عن لقمة العيش وتوفيرها لأطفاله والخوف من مفاجآت السوق الى حروب السلطنة ومصادرة المحصول الزراعي والسيطرة على اسواق الحرف وإخضاعها لمتطلبات الحرب لكي يظل مصغياً سمعه للبوق الذي ينفخ في ميدان المدينة؟ مثل هذا الواقع المذل المرير هو الذي قضى على روحية الانسان العربي طوال اكثر من ثمانمئة عام فقضى على تطور الآداب والفنون العربية التي ازدهرت من قبل في ظل انتعاش اوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية. هذا الواقع يجعل المواطن ينشدّ الى انتظار بديل مادي للأوضاع عبر بوق آخر لا يأتي بأخبار السلطان وإنما بأخبار التمرد والانتفاضة عليه. البوق اذن هو القاسم المشترك لتضاد سياسي بين السلطة والخلاص منها. والشعر السياسي سيظل سيد المواضيع والاتجاهات الشعرية طالما ظلت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية متردية ومتوجهة ضد حريات المواطن واستقراره الاجتماعي والاقتصادي. الشاعر السياسي اذن مناضل في نظر الجمهور وبالتالي مناضل في نظر حزبه. وكونه مناضلاً هو موقع ونفوذ وشيوع. والشاعر السياسي نفسه ليس سوى مواطن في واجهة يعبر عن رغبات الجمهور والحزب في مواجهة سلطة ما داخلية تجد تعبيراتها في الصراع الحزبي والفكري والاجتماعي، او خارجية تجد تعبيرها في دول قومية او ايديولوجية هي امتداد للصراع التاريخي، القومي والديني والثقافي. وفي كلا الحالين تتغذى هذه التعبيرات بالتراث الطويل للصراع الذي شهده التاريخ العربي وشكّل الطابع العام للثقافة السياسية العربية. فالعدو القومي، في أدب قومي ولغة قومية، هو المحرض الاكثر تأثيراً لقومية تحاول العثور على ذاتها وهويتها من جديد. ومن اقدر على الثقافة والأدب من التعبير المباشر عن الهوية؟ هذه الأرضية التي ترتبط ببنى اجتماعية واقتصادية وباطار ثقافي تاريخي هي الأرضية التي تتغرب عليها الحداثة الادبية، التي تحاول ان تكون بديلاً عن الثقافة السياسية بشكل ما. وكلما انفصلت هذه الحداثة عن السياسة كلما امعنت في الاغتراب. فالوعي وحده لا يستطيع ان يحول الشعر الى فن في مجتمع ينتمي وعيه الجمعي الى عناصر التاريخ الاجتماعية والثقافية، وأكثر من ذلك لا يستطيع هذا الوعي وهو يتجلى في اشكال وأجناس غير الشعر والادب ان يكون ثقافة في مجتمع. وهذا الواقع هو الذي يجعل الوعي بالمجتمع المدني وعياً نظرياً شكلياً لا يتجذر في أرضية ملموسة ويتشكل في بنى ومؤسسات سياسية واجتماعية وثقافية. وهذا الواقع هو الذي يجعل الحداثة العربية منعزلة ومنغلقة على نفسها ودائرة في محيط ضيق ومحدود يشكله اهلها بحيث اصبح الوسط القارئ للحداثة هو الوسط المنتج لها فحسب. وإذا كانت السياسة والحداثة تتعففان عن وصف الانتاج الثقافي بالبضاعة فاننا نواجه كساد هذا الانتاج لأنه لا يعير اهمية لمتطلبات المنفعة التي يتوخاها كل مستهلك يقدم على اقتناء البضاعة. لكن مهما تعففنا عن استخدام مفهوم البضاعة بالنسبة الى الثقافة فانها تعامل كما تعامل السلعة. حسناً لنقل انه سلعة روحية، اذ طالما دخلت السوق فانها تخضع لمتطلبات السوق. والأدب السياسي يعكس في الواقع متطلبات السوق الثقافية. ولشدة تغليب السياسة على الأدب نضرب مثل اتحاد الادباء الفلسطينيين، وهو مثل ما زال العرب يفضلونه طالما انه يتعلق بالقضية الفلسطينية، القومية. فما جرى في دمشق يفضح المسعى الطويل الأمد الى وضع الثقافة في خدمة السياسة. اي تحويلها من سلعة ثقافية الى سلعة سياسية وتنظيمية حين تهرع الاحزاب والمنظمات لتشكيل اتحاد كتابها وأدبائها من موظفين ومناضلين سياسيين، الايديولوجيا عندهم لا تماثل الثقافة فحسب بل تضمها وتحتويها. حينئذ لا تنطق التشكيلات الثقافية باسم الثقافة والابداع وإنما باسم السلطة السياسية ايا كان موقعها، في الحزب او الدولة على حد سواء. نستطيع ان نضرب مثلاً آخر غير مثال اتحادات الكتّاب والأدباء، هو الاستفتاءات السنوية حول ماذا قرأ المثقفون. فلو اخذنا احدها لهذا العام مثلاً فانه سيتيح فرصة نادرة حقاً لاعلان ان الوضع الثقافي يتجه نحو مزيد من الانغلاق في الجهة المقابلة للسياسة من دون ان ينفصل عنها. الاستفتاء كان علامة من علامات التدهور الثقافي غير المرئي تماماً للبعض. هذا التدهور الذي يشترك فيه مثقفون ولا يريدون الافصاح عنه لأن بعض المثقفين طرف فاعل فيه. فإذا كان المثقف مرآة الامة او وجهها او في مقدمة صفوفها او في طليعة عناصرها، او كان اي توصيف من توصيفات عدة، فهل يعقل ان هذه المرآة او عقل الامة هذا لا يشير الا الى نتاجه ونتاج جمهرة صغيرة من اصحابه؟ فالمترجم فرح بالكتاب الذي ترجمه وهذا من حقه ويشير الى انه اهم كتاب قرأه. والشاعر يشير الى كتب لم تصدر بعد او اهدي نسخة منها من صديقه ومن اتجاهه الشعري. والناقد المصري لسوء الحظ ما زال كفيف البصر عن انتاج واحد وعشرين بلداً عربياً غير مصر ويتصور نفسه في بداية القرن التاسع عشر حين كانت هناك مطبعة واحدة تطبع كتب المصريين بالمطبعة التي جلبها نابليون معه. ويختلط الحابل والنابل في الاستفتاء كما يختلط في بعض الامسيات الادبية فتبدو النتيجة تركيبا مفتعلاً لعناصر ثقافية متباينة. هل حقاً ان الحياة الثقافية تتشكل من جمهرة مثقفين لم تقرأ سوى نفسها او بعضها وتقدم للقارئ ما قرأته هي باعجاب له اسبابه السياسية والايديولوجية او الشخصية؟ طبعاً لا تستطيع ان تجري استفتاء من الف مثقف. لكن هذه العينة المختبرية تفضح الواقع الثقافي وتشير الى امكاناته المحدودة ذات الطابع السياسي او الشخصي. هل حقاً ان الوضع الثقافي العربي مختصر الى هذا الحد؟ وهل ان العقل العربي المثقف على وجه الخصوص لا يعرف ان يقرأ كتب سوى من يرتبط بهم بعلاقة وطيدة؟ لقد جمعتني الظروف خلال الأيام التي ظهر فيها الاستفتاء ببعض الاصدقاء من الوسط الثقافي وبعضهم كان مشتركاً في الاستفتاء وكانت احتجاجاتهم معلنة وتقديراتهم ان مثل هذا الوضع يشير حقاً الى كارثة. فهل على المثقف ان يصمت لتستمر الكارثة؟ لقد عابوا على البعض التبشير بكتب اصدقائهم لأن المسألة متبادلة: اشر اليّ هنا اشر اليك هناك. وبهذا يحل الفرد المنعزل محل الحزب الجماهيري في وضع الثقافة في زاوية حرجة. هل هذا الوضع هو البديل عن الثقافة السياسية والادب السياسي؟ وهل المثقف اما ابن سياسة او ابن موضة ثقافية عابرة؟ يظل موضوع المثقف او المناضل، المبدع ام السياسي، موضوعاً محتاجاً الى حوارات ديموقراطية وموضوعية بالمعنى الصحيح لا بالمعنى الثوري المعتاد. الحوار الذي يحلل ويطرح الاسئلة لا التهم. وتظل الثقافة العربية اليوم بحاجة فعلية الى التنوير وليس الى الايديولوجية. على الأقل لسبب بسيط هو لكي لا يكون النضال السياسي لأي مناضل ضحية لوجود هذا المناضل في موقع غير موقعه!