تسبب المهاجرون اللاشرعيون في فرنسا في انبثاق نقاش يتعدى السياسة ليشمل أسئلة فلسفية وأنثروبولوجية وأخلاقية... تهم مكانة الآخر الأجنبي وسُبل استقباله وكيفيات التعامل معه الخ... وفي هذا السياق حظي موضوع "الضيافة" باهتمام ملحوظ لدى الفلاسفة الفرنسيين وعلماء الاجتماع. وفي اعتقاد الكثيرين ان هذا الموضوع مرشح، بحكم اتساع رقعة البؤس واستشراء الأوبئة وانتكاس الحريات وتعاظم القمع وإلى أن يصبح أحد شواغل الساعة. في هذا المضمار ظهرت نصوص "الضيافة" في عدد خاص من مجلة "كومينيكاسيون" بمشاركة ستة عشر باحثا ينتمون الى تخصصات متباينة تاريخ، انثروبولوجيا، تحليل نفسي الخ.... والمساهمة الثانية هي كتاب "قوانين اللاضيافة" Les Lois de L'inhospitalitژ، وهو بحث جماعي باشراف ديدييه فاسان وآلان موريس وكاترين كيمينال. والمساهمة الثالثة من الفيلسوف جاك دريدا في عنوان "في الضيافة" De L'Hospitalite ويحمل النص ايضاً توقيع الفيلسوفة الفرنسية والمحللة النفسانية آن ديفور مانتيل. في "الضيافة" لمجلة "كومينيكاسيون"، مداخلات تتقاطع عند فكرة محورية مفادها ان الضيافة واجب مقدس يقتضي رعاية الآخر المرتحل عن دياره وأهله. وفي المجتمع الاغريقي كانت الضيافة وقفاً على الالهة، ترعى الوافد الأجنبي وتقدم له الحماية. ولاحقاً في المجتمع البورجوازي، تعاملت هذه الطبقة مع الضيافة كفضيلة بغرض الرفع من جاهها كطبقة. أما اليوم فإن الضيافة من تخصص بعض المرافق مثل الجمعيات الخيرية أو أقسام الرعاية الاجتماعية التي تتكفل بتقديم العلاج والسكن والتغذية لبعض الحالات أو للفئات الرثة. وبانبثاق المدن تغيرت ملامح وأساليب الضيافة. وبدل أن تبقى وتحافظ على طابعها الاجتماعي - الانساني أصبحت وقفاً على تطوع الأفراد الذين يحركون غالباً آلية مؤسسات العون والضيافة، وليست الدولة. والضيافة مرآة لهوية هذا البلد أو ذاك. فإن كانت شعوب معينة معروفة بحس الترحاب والضيافة، وعلى رأسها الشعوب الاسلامية، فإن شعوباً أخرى بفعل انكماشها على هويتها، تفضل ألا يزج الأجنبي نفسه بين ظهرانيها. وفي المجتمعات الغربية، اتخذت الضيافة أشكالاً مختلفة، مثل حملات التبرع التي تنظمها أو تشرف عليها شخصيات نجومية، لمصلحة ضحايا الايدز مثلاً أو المعاقين عقلياً. وتدخل هذه الضيافة في خانة "الاحسان لجني المال". فاليزابيث تايلور ومايكل جاكسون ولوشيانو بافاروتي وغيرهم نجوم هذا العمل الخيري الذي يعود عليهم بفوائد جمة! تقوم الضيافة على مبدأ الاقتسام، بل "ان يتحول المضيف الى خادم" بحسب عبارة بيار سانليفر. انها أولى خطوات المغايرة الاعتراف بالآخر كذات. وهذا الواقع يتعارض مع الفكرة القائلة والمعمول بها في أكثر من مجتمع، بأن الوافد، الغريب، يحمل بذور الفتنة والأمراض. وقد ترتب عن هذا الاستيهام تشديد للقوانين والسلوكات الاقصائية التي بموجبها يصبح الأجنبي محطاً للأنظار وموضوعاً للنقاش! وتتقاطع طروحات هذا العمل مع البحث الجماعي الذي أشرف عليه كل من ديدييه فاسان وآلان موريس وكاترين كيمينال، وذلك عند تبيان لا مسؤولية الأجنبي، خصوصاً العامل المهاجر، عن أزمات وانسداد آفاق المجتمعات الغربية، مثلما تُشيعه الأحزاب الوطنية ذات المنحى الفاشي. انكبّ المساهمون على مواضيع القانون ورمزية الاقصاء والهجرة وكذا تغير جغرافية الضيافة في زمن العولمة الخ... عدم الضيافة في المجتمع الفرنسي ليست وليدة اليوم. وكونه مهد حقوق الانسان والحريات لا يغير شيئاً من صورته كمجتمع جلف وفظ! وإبان الثورة الفرنسية كان ينظر إلى الأجانب كأعداء سياسيين أو كخونة يجب الاحتياط منهم. لذا كانت الدعوة دائمة الى مراقبتهم حتى يتم استقطابهم ودمجهم في آلية الثورة. بيد أن أغلب المداخلات ركز على دراسة السياسة التي انتهجتها الحكومات الفرنسية خلال السنوات العشرين الأخيرة في حق الأجانب وخصوصاً العمال المهاجرين. تميزت هذه السياسة بتشديد وتصلّب ممارسات اللاّضيافة، حيث تحول الأجنبي الى دخيل، ورديفه في المتخيل العام "السارق" "المغتصب للثروات والنساء". ويبين البحث ان تشديد القوانين هو أحد الأسباب الرئيسية المنتجة للاقصاء واللاشرعية. رمزية، بل نتيجة، هذا الواقع تتمثل في أن المهاجر يحتل الهوامش قبل الانتهاء الى أقبية وسراديب المجتمع. يفضل الاختباء بل الاختفاء بدل البقاء تحت أنظار الآخرين. وفي بعض الحالات يترتب عن هذا الوضع خوف من الظل الشخصي واحتقار للأنا وللآخر. والشرع بطابعه الزجري يمثل أحد الأسباب التي تدفع بالمهاجر أو الأجنبي الى الخفاء واللاشرعية. إن كان هذان البحثان ركزا على البعد الانثروبولوجي والتاريخي والسوسيولوجي لمسألة الضيافة واللاضيافة، فإن جاك دريدا وآن ديفور مانتيل قاما بتأمل فلسفي للضيافة وتداعياتها العلمية في ضوء المستجدات التكنولوجية، خصوصاً انبثاق البريد الالكتروني والانترنت. الكتاب أصلاً محاورة لا مباشرة بين جاك دريدا وآن ديفورمانتيل. وقد طلبت هذه الأخيرة من الفيلسوف أن يخصها رأساً لرأس، بدرسين في موضوع الضيافة، فيما قدمت هي أمامه عرضاً في الموضوع نفسه انطلاقاً من فلسفته. تشدد آن ديفورمانتيل على جغرافية الغريب الذي يسعى الى أن يكون قريباً. يرحل الضيف عن دياره ليفد الى ديار الغير ساعياً الى الاقتراب منهم. وتشير آن ديفورمانتيل الى أن علاقة المكان بالضيافة علاقة أساسية. وهذا ما يشدد عليه جاك دريدا حين يقول ان الغريب يحمل معه أسئلته ويطرحها بطريقته، ان مباشرة أو بشكل غير مباشر في الحيز الذي يشغله. في محاورات أفلاطون، خصوصاً في "السفسطائي" نجد ان الغريب هو الذي يطرح الأسئلة. هو الذي يخلخل بأسئلته معتقدات ودوغمائية "اللوغوس" الذي يتحكم بأهل المدينة. وتتعامل المدينة مع الأجنبي الغريب كأنه شخص لا يتقن اللغة المحلية، أي لا يتحدث حديث العامة. ما يقوله الغريب هو أن "العدم موجود" وهذا يتعارض مع فكرة بارمنيدس، أبي المدينة ومفكرها الروحي، القائلة ان "لا وجود للعدم". تنظر المدينة للوافد الأجنبي على أن طموحه هو تقويض مرتكزات المدينة وقتل الأب واللوغوس. وبطرحه لكينونة العدم تدفع المدينة بالغريب الى شفير الجنون. وبحسب دريدا يجسد سقراط وضعية الغريب، فهو يربك بأسئلته الآخرين، ثم يسخر منهم: أمام القضاة، أثناء محاكمته، يشير سقراط بأنه غريب على أبهة البلاغة التي تتشدق بها المدينة. أي أنه ليس بسفسطائي. كما أن لغته غريبة عن لغة المنابر والمحاكم، لا يعرف حديث الاتهام والدفاع والمرافعة. وهذا يجرنا كما يقول دريدا الى وضعية الغريب - الأجنبي الذي يجد نفسه من دون دفاع أمام قانون البلد الذي يستقبله ويطرده في ما بعد. الغريب هو ذاك الغريب عن اللغة التي صيغت بها قوانين الضيافة، حيث يطلب منه أن يصوغ طلب الضيافة بلغة غير لغته الأم. وهذا أول عنف يتعرض له الغريب - الأجنبي. تقتضي الضيافة أن يكون الغريب صاحب اسم، أي أن تكون له هوية. إذ من الصعب لبلد ما أن يستقبل شخصاً عديم الاسم بيد أن الضيافة المثلى تقتضي من المضيف أن يفتح باب بيته للغريب من دون أن يطالبه باسمه. تستلزم الضيافة المطلقة، كما يقول دريدا قطيعة مع ضيافة القانون ما أسمك؟ من أين أتيت؟ والى من أنت ذاهب؟ الخ... والشرع. ثمة قرابة وفي الوقت نفسه تعارض بين حالة سقراط وحالة أوديب الذي ارتكب زنا المحارم وقتل أباه ثم فقأ عينيه، ليخرج عن القانون وعن المدينة. وفي اعتبار أوديب تتحمل قوانين المدينة المسؤولية عن أفعاله. من هو الغريب؟ وماذا تعني عبارة "الذهاب الى الخارج أو العودة من الخارج؟"، يتساءل دريدا. أليس الغريب، الأجنبي ذاك الشخص الخارج عن بلده؟ سواء أكان الخروج فتنة أو هرباً؟ ان كل خروج مرفوق بالعنف وبالأسى والمأساة. تأخذ قراءة دريدا لمسألة الضيافة مكانها بين موقعين: موقع الفلسفة الاغريقية وموقع الانترنت والبريد الالكتروني، الذي يعتبر أحد تجسدات الثورة التكنولوجية الجديدة. وقد نتج عن هذه الثورة، كما يقول دريدا تشدد الدولة في المراقبة والحجز. وأثرت هذه المراقبة على فكرة "حرمة البيت" التي تقتضي أن يستعمل الأفراد وبكامل الحرية في بيوتهم التلفون والانترنت للتحدث الى الأصدقاء من دون حسيب ولا رقيب. وهذا التدخل في الشؤون الداخلية عبر أجهزة التنصت على المكالمات ومراقبة البريد الالكتروني هو أحد أشكال المراقبة المرشحة لمضاعفات جديدة في القرن الحادي والعشرين، فلا ضيافة من دون حرمة للبيت. لا يستند تساؤل دريدا فقط على النصوص الفلسفية، بل كذلك على تجربته الشخصية كأجنبي وغريب وافد من الجزائر، مسقط رأسه، الى فرنسا. كانت فرنسا تعتبر الجزائر مقاطعة فرنسية، كان فيها المسلمون واليهود على حد سواء مواطنين من الدرجة الثانية. يشير دريدا بأن المسلمين كانوا فرنسيين من دون أن يتمتعوا بحق المواطنة الفرنسية. وبصفته وافداً الى بلد أجنبي غير مضياف والى لغة هذا البلد، لم يلبث دريدا أن جعل من الضيافة مكاناً رمزياً للاشتغال وباللغة الفرنسية، أي بلغة المضيف، وذلك في اطار استراتيجية تفكيك لتركيبة وبلاغة هذه اللغة. من هنا "غرابة" فلسفته وعجمة قوله، كسقراط جديد في مدينة اللوغوس والعقل.