يتساءل كثير من المسلمين: ما موقف الفقه الاسلامي المعاصر من الفنون التشكيلية الحديثة متمثلة في الصورة والتمثال؟ ويلاحظ أن آراء الفقهاء في هذا الشأن مرت بأربع مراحل: المرحلةالاولى في صدر الدعوة الاسلامية عندما كان المسلمون قريبي عهد بعبادة الاوثان في الجاهلية. فكانوا يتشددون في كراهية التصوير وفي النهي عنه خوفا على المسلمين من العودة الى تقاليد الجاهلية. ومن امثلة هذا ما رواه البخاري عن ابن عباس ان رساما جاءه يستفتيه في صنعته فقال: يا ابن عباس: اني رجل انما معيشتي من صنعة يدي واني اصنع التصاوير، فقال ابن عباس لا احدثك الا بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: "من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها ابداً". فربا الرجل ربوة شديدة اي انتفخ غيظا وضيقا فأراد ابن عباس ان يخفف عنه فقال له: ويحك ان ابيت الا ان تصنع فعليك بهذا الشجر وكل شيء ليس فيه روح. فهذه القصة تبين لنا خوف المسلمين الاولين من العودة الى عبادة الصورة. وكانت الصور التي تعبد في ذلك العصر هي صور الانسان او بعض الحيوانات كالبقرة والنسر والثعبان وغيرها عند بعض الشعوب، ومن هنا جاء النهي عن تصوير ما فيه روح، مع السماح بما سوى ذلك. وبعضهم يشترط اذا صور ما فيه روح فيجب الا يكون جسما كاملا بحيث يشبه المخلوق الحي الكامل، فيجيز صناعة التمثال النصفي او تمثال تقطع رأسه ويبقى الجسد. واذا كانت الصور تمثل مخلوقا حيا كاملا فيجب ان تقطع وتفرق الى قطع غير كاملة. ومن شروط الفقهاء ايضا ان توضع الصورة في مكان الامتهان لها، والقصد بالامتهان هو البعد عن فكرة تقديس الصورة، فاذا كانت في سجادة على الارض تداس بالاقدام فهذا امتهان لها. وكذلك اذا كانت في وسادة يستند اليها الجالس، فلا بأس كما فعلت عائشة. والشيء نفسه بالنسبة الى التماثيل اذا استعملت في موضع فيه ذل لها، فيروي الامام ابن حجر عن عروة ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتكيء على المرافق فيها تماثيل الطير والرجال. من هذا كله نستطيع ان نتفهم تشدد المسلمين الاولين حول فن التصوير وذلك خوفا من عودة الناس الى عبادة الصورة والتمثال، فمرة يشترطون اهانة الصورة وتارة يشترطون قطع الرأس او تقطيع البدن او البعد عن رسم ما فيه الروح. فلم يكن الهدف هو منع هذا الفن او تحريمه لانه لم يرد في القرآن والسنة نص صريح على التحريم المطلق، بل كان الهدف تجنب سوء استعمال هذا الفن في الشرك والفساد. المرحلة الثانية هي عصر النهضة الاسلامية في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وهي ازهى عصور الاسلام وفيها حدث التقارب والتزاوج بين الفن والفقه. وعندما فتح العرب مصر كان فيها آلاف التماثيل للفراعنة وآلاف الرسوم والصور، ولكن لان هذه التماثيل والصور كلها لم تكن تعبد فلم يتعرض لها الحكام العرب وظلت حتى عهدنا الحاضر سليمة لم تمس. والشيء نفسه حدث في البلاد الاخرى التي دخلت الاسلام. وابتدأ الموقف من التصوير يتغير في العالم الاسلامي شرقاً وغرباً، وظهر في كتب العلم والطب والبيطرة الكثير من الرسوم العلمية الملونة وهي ما يسمى بالمنمنمات، وكذلك حفلت كتب التاريخ والادب والرحلات والجغرافيا بالرسوم وجميعها تصور البشر والحيوانات والطبيعة. كذلك صنعوا التماثيل في القصور والبيوت والميادين العامة لغرض الزينة، من ذلك تماثيل الاسود في نوافذ قصر الحمراء والساعات الدقاقة التي توضع في الميادين العامة في دمشق وعواصم الشمال الافريقي والتي كانت تشتمل على تمثال لأناس او حيوانات تخرج الى المشاهدين مع دقات الساعة فاذا طلع الفجر يخرج شخص واصبعه في اذنه يشير الى الاذان… وهذا كله يدلنا على تغير المزاج العام للحضارة الاسلامية وتقبلها للصورة والتمثال للنفع العام. المرحلة الثالثة وهي فترة الحكم المملوكي التركي للعالم الاسلامي، وقد بلغ بهم الجهل ان كانوا يطلقون على الرسوم والتماثيل الفرعونية اسم "المساخيط". وفي هذه المرحلة نهبت اوروبا الكثير من الآثار الفرعونية تحت اعين الحكام المماليك وسمعهم، لانهم كانوا جهلة لا يعرفون قيمة هذا التراث الفني الرائع ما جعلهم يفرطون فيه. المرحلة الرابعة جاءت مع تطور الفن في العصر الحديث، ودخول التصوير في جميع العلوم المعاصرة، كما ذكرنا. واصبح محتما ان يساير الفقه التطور الاجتماعي والعلمي فظهر جيل جديد من العلماء الذين اجتهدوا في التوفيق بين الرأي الديني وحاجة المجتمع المعاصر. وابتدأت هذه المرحلة بظهور جمال الدين الافغاني. وتلميذه الشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا والشيخ عبدالرحمن الكواكبي، ثم تلا هؤلاء جيل من الفقهاء المعاصرين امثال الدكتور عبدالمنعم النمر والدكتور محمد سيد طنطاوي والشيخ محمد الغزالي والدكتور محمد عمارة. والخلاصة هي انه لم يعد هناك مجال في القرن العشرين لمن يقول ان التصوير او التمثال حرام، او يشترط تطوير ما ليس فيه روح، او قطع رأس التمثال حتى يصبح شرعياً. فلكل عصر فكره واجتهاداته وظروفه وملابساته. وطالما التزم الفقيه المجتهد المسلم بروح الشريعة واهدافها التي تشترط البعد عن الشرك وعن الفساد فإن اجتهاده يكون لصالح الاسلام وتقدم المسلمين وحمايتهم من التخلف.