مما لا شك فيه ان العرب الذين عاشوا أوج النهوض القومي العربي في سنوات الخمسين يذكرون اليوم انطوني ايدن، اكثر مما يذكره ابناء جلدته البريطانيون انفسهم. فاسم ايدن مرتبط في الذهن العربي بما سمي يومها "العدوان الثلاثي" على مصر، حيث كان رئيس الحكومة البريطانية ضالعاً في مؤامرة ذلك العدوان الى جانب الاسرائىليين والفرنسيين، كمحاولة للانتقام من الذل الذي ألحقته مصر الناصرية بالمستعمر البريطاني السابق: مرة عبر تسريع جلائه عن الاراضي المصرية، ومرة ثانية عبر تأميم شركة قناة السويس. بهذا المعنى كان ايدن في ذلك الحين، عدو العرب المباشر. وهو سيدفع على اي حال ثمن ذلك بعد عام من "فشل العدوان الثلاثي" بفعل الضغوط السوفياتية والاميركية التي ارغمت اصحاب العدوان على الانسحاب من الاراضي المصرية من دون ان ينفذوا غاياتهم الاساسية من العدوان. بعد العدوان بشهور استقال ايدن من رئاسة الحكومة البريطانية، وعاش بعد ذلك عشرين عاماً شبه منسي بعد ان انتهى مساره السياسي تماماً. وهو مسار كان واعداً وجعل الملكة البريطانية تكافئه عليه في العام 1961 بمنحه لقب "كونت آفون". انطوني ايدن الذي رحل عن عالمنا وسط ما يشبه الصمت التام في الرابع عشر من كانون الثاني يناير 1977، كان يومها في الثمانين من عمره. وهو امضى اكثر من نصف سنوات حياته منخرطاً في العمل السياسي، كعضو فاعل في حزب المحافظين. اما بروزه لاول مرة على الصعيد البريطاني الداخلي فكان في 1935 حثن عهد اليه رئيس الحكومة بالدوين، الذي كان يتابع سياسة ترجيح كفة الشبان في شؤون الحكم، عهد اليه ب"وزارة من دون حقيبة تتولى شؤون العلاقة مع "عصبة الامم"، ولقد أتت الازمة الاثيوبية بعد ذلك لتظهر تفوق ايدن الديبلوماسي ما جعله، على الفور، يتبوأ منصب وزير الخارجية، وهو منصب ابقاه نيفيل تشامبرلن فيه، غير ان ايدن، كرجل مبادىء محب للسلام - في ذلك الحين على الاقل - سرعان ما استقال في 1938 محتجاً على عدم تجاوب الحكومة البريطانية مع دعوة الرئيس الاميركي روزفلت لعقد مؤتمر سلام دولي غايته المصالحة مع ايطاليا، حتى ولو كان ثمن ذلك الاعتراف بالامر الايطالي الواقع مع اثيوبيا. ومن ناحية أخرى لم يخف ايدن في ذلك الحين تناقضه مع موقف الحكومة البريطانية المعتدل ازاء الحرب الاسبانية. وهو بعد ذلك انضم الى ونستون تشرشل في معسكر "الصقور" بالنسبة الى اتفاقية ميونيخ، وبعد اندلاع الحرب عاد واصبح عضواً في حكومة تشمبرلن الجديدة. وفي 1940 كان دور تشرشل، هذه المرة، ليعهد اليه بوزارة الخارجية. وهو بتلك الصفة شارك في صنع كل القرارات الكبرى التي راح الحلفاء يتخذونها. اثر ذلك، حين حل حزب العمال في الحكم محل المحافظين، نسي ايدن تماماً، ليعود الى الحكم في 1951 مع عودة المحافظين، وليشغل من جديد وزارة الخارجية، حيث راح يروج الفكرة التي ورثها عن سلفة ارنست بيغن والتي تقول بان لانكلترا دوراً مثلثاً كبيراً يجب ان تلعبه في العالم انطلاقاً من كونها محوراً في "الحلقة الاطلسية"...، في "الحلقة الاوروبية" وفي "حلقة الكومنولث". وهو راح يشجع من ناحية على بناء اوروبا ومن ناحية ثانية على اعادة تسليح المانيا، مصراً على ان بريطانيا لا يتعين عليها ان تخسر اي قسط من سيادتها. ولقد قاد هذا ايدن لكي يبرز بصورة قوية على مسرح الحكم في لندن خلال النصف الاول من سنوات الخمسين، حيث شارك في رئاسة مؤتمر جنيف الذي أنهى حرب الهند الصينية الاولى 1954، ثم اقنع تشرشل بالقبول بوجود دائم للقوات البريطانية في اوروبا عبر تمركزها في ألمانيا، كما أقنعه باشتراك بريطانيا في "جماعة اتحاد اوروبا الغربية". اما انسحاب تشرشل من الحكم في العام 1955، فكان هو الذي فتح امام ايدن آفاقاً جديدة، فاذا به يتسلم مقاليد الامور في البلد كزعيم لحزب المحافظين ورئيس للحكومة. ولكن قمة نجاحه تلك كانت وبالاً عليه، اذ سرعان ما تورط في "حملة السويس" او "العدوان الثلاثي" فاستقال في كانون الثاني يناير 1957، لاسباب صحية حسب الرواية الرسمية فانتهت بذلك حياته السياسية كلها.