بدت مجزرة مدينة الأقصر 17 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي ضد عشرات من السائحين وكأنها المجزرة الأولى البشعة التي اقترفتها جماعات الاسلام السياسي في مصر، اذ تحركت القيادة المصرية بسرعة غير مسبوقة لاحتواء آثار هذه الجريمة قبل ان تجف دماء الضحايا. وتزامن تحرك القيادة المصرية ممثلة في شخص الرئيس مبارك بتحرك اجهزة الأمن، ليس فقط للكشف عن فلول المتورطين في هذه المذبحة والقبض عليهم، بل لوضع خطط امنية جديدة ومحاكمة بعض من كبار رجال الأمن الذين فشلوا في توفير الحماية لهؤلاء الزوار. هذا في الوقت الذي قام كل من مجلسي الشعب والشورى بفتح ملف الارهاب بعد ان كان قد وُضع جانباً لبضع سنوات. كما عقدت الاحزاب المصرية مؤتمراً كانت قضية مواجهة الارهاب من ضمن اهم بنوده. وتوالت ردود الفعل لتتحرك الاجهزة الدينية الرسمية ممثلة في مشيخة الازهر ووزارة الاوقاف ودار الافتاء لتعلن جميعها عن خططها في توعية الشباب بطبيعة الاسلام السمح وتطهير المساجد من الدعاة المتطرفين او المنتمين الى جماعات العنف. كما عقد بعض المسؤولين في الجماعات المصرية مؤتمراً او اكثر لشجب الجريمة وتدارس الظاهرة. ولا شك في ان كل هذه الاجراءات الايجابية، ومنها ما لم يتخذ اثر مذابح وحوادث سابقة طالت مصريين وأجانب، اجراءات ضرورية ومهمة قوبلت بارتياح وتقدير مصري وعالمي. ولكن الملاحظ انها مثل غيرها - مما اتُخذ في الماضي عقب احداث مشابهة لا تقل خطورة، لا تصل الى جذور ظاهرة الارهاب السياسي الذي اتخذ الدين الاسلامي وعاء له. ولذلك استمر العنف، وازدادت شراسته. وغني عن البيان ان ربط الارهاب بالدين لا يعني ان الاسلام في جوهره ومبادئه العامة يحرض على العنف. انما المقصود هو التخريجات والتفسيرات السلفية التاريخية التي أسست عليها تلك الجماعات السياسية فلسفتها وحركتها. وهو خلط خطير يتعارض مع روح العصر ويشكل، في الأساس، تحدياً خطيراً يهدد المجتمعات العربية والاسلامية قاطبة من داخلها. وإن كان للارهاب أبعاد دولية، ومصادر اخرى تستلزم تكاتف اعضاء المجتمع الدولي، الا انه يجب - اولاً - على العالمين العربي والاسلامي اللذين يكتويان بنار الارهاب اكثر من غيرهما ان يواجها الواقع بشجاعة، ويتحملا المسؤولية لاستئصال هذا الخطر من جذوره على المستويين القومي والاقليمي. اما المستوى الاقلميي، فهذه قصة طويلة يصعب الحديث عنها اليوم بعد ان شاهدنا صمت - او فشل - العالمين العربي والاسلامي في التعاطي مع الوضع المأسوي في كل من افغانستان والجزائر والسودان على مدى سنوات. ويكفي هنا الآن - بالنسبة لمصر - التركيز على الوضع فيها، باعتبارها قلب الجسد العربي المثخن بالجراح. فليس من الحكمة - في هذا المفترق الحرج بكل ملابساته السياسية التي تواجه المنطقة العربية - ان نبعد باهتمامنا عن القلب الى الاطراف، والمنطق يقول ان صحة القلب هي الضمان لبقاء الجسد حياً. وصحة مصر - القلب، تتطلب حشد كل القوى التي تحركت مؤخراً عقب مجزرة الأقصر، بشكل شبه عفوي وإن بدا عليه العزم. وبمعنى آخر، فالوضع الحالي يستلزم اكثر من عقد مؤتمرات او كتابة مقالات او حتى كتب. فقد سبق عمل الكثير من ذلك. والعودة الى مثل هذه الدراسات وتنفيذها كفيل بالوصول الى الحل. ومرة اخرى وأخيرة، قد تكون هناك تحديات اقتصادية تواجهها مصر، وتشكل هذه التحديات احد روافد الارهاب. ولكن يجب الا نخدع انفسنا قبل غيرنا، فمصر على مدى تاريخها مرت بفترات عانى فيها اغلب شعبها الفقر والحرمان، ولكننا لم نشهد من بنيها من خرج منها بهذه الصورة الدموية ليقتل ابرياء ويدمر عمراناً وحضارة من اجل "الاصلاح"! ان هذا الطوفان الارهابي هو من صنعنا ثقافياً وحضارياً. فلقد اختلطت الألوان المكونة للرؤية التاريخية وانطمست الخطوط الفاصلة بين التدين بسموه وانفتاحه على الحياتين الحاضرة والأبدية من ناحية، والتطرف والانغلاق والهروب من الواقع والمستقبل من ناحية اخرى. ولقد ساهمت الأنظمة ومؤسساتنا السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية في ضياع اجيال عاشوا بغير بوصلة قومية تهديهم وبغير طريق يشاركون من خلاله في صنع املهم وتحقيق مستقبلهم.