لم يخل تاريخ مصر من علاقة ما بين الدين والدولة، منذ الفراعنة وحتى اللحظة الراهنة، إذ للدين فيها مكانة متأصلة في النفوس والقلوب والعقول بصرف النظر عن تفاصيل التدين وطقوسه وتنقله من أديان مصر القديمة إلى اليهودية والمسيحية والإسلام، واستغلاله في السياسة والتجارة، وجعله وسيلة، على يد بعضهم، للإيهام والسيطرة والبغض والاقتتال. على الجانب الآخر فإن للدولة، بتشكلاتها المادية وتجلياتها الرمزية، مكانتها الراسخة لدى المصريين لقِدَمها، إذ إنها أول دولة في تاريخ الإنسانية، ولمركزيتها الصارمة، وكذلك للدور أو الوظائف التي تؤديها طيلة تاريخها المديد. هذه الخبرة التاريخية لم تمت، على رغم تعاقب القرون، وتبدل الأحوال بل أعيد إنتاجها في سياقات وفضاءات اجتماعية مختلفة، إلى أن وصلنا إلى الحقبة المعاصرة التي يشهد فيها السجال والتنافس والصراع بين السلطة السياسية والجماعات التي تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها فصلاً جديداً، ويدور حول مسائل تتعلق ب «دين الدولة» و «دولة الدين» تفرز خطابات وأدبيات ووقائع وأحداثاً، وتدابير تنظيمية وحركية، وشبكات وبنى اجتماعية عديدة. وهذه الحمولات الفكرية والحركية تعد غاية في الدلالة بالنسبة إلى التجربة المصرية، لارتباط الدولة بالدين الضارب بجذوره في القرون الغابرة، ولقيام أول جماعة، بعد ظهور الدولة الوطنية، تربط الدين بالسياسة إلى حد عميق، وتحول الإسلام إلى مشروع سلطة سياسية، وهي جماعة الإخوان، ولوصول هذه الجماعة إلى الحكم، بعد أن ظلت عقوداً من الزمن تقول للناس: امنحوني الفرصة، لتصبح تجربتها تلك مثلاً سيظل يُضرب حتى سنين طويلة مقبلة. وهذه المسائل العامة وتفاصيلها الصغيرة انتظمت في رافدين أساسيين هما؛ أولاً: تطور البحث عن «دين للدولة»: تبقى أقصر الطرق لرصد هذا التطور، وأكثرها رسوخاً وشمولاً هو تتبع هذه المسألة في الدساتير المصرية المتعاقبة، باعتبارها الإطار المرجعي الأساسي للدولة المصرية. وقد خلا أول دستور صدر لمصر عام 1882 من ذكر «الإسلام» ديناً للدولة، لكن جاء دستور 1923 ليبدأ أول خطوة في الاتجاه المضاد حين نصَّ في المادة 149 منه على أن «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية». واستمر هذا حتى أخذ دستور 1971 خطوات أوسع حين نصَّ في المادة الثانية منه على أن «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها طالرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع»، وهي المادة التي احتفظ بها الدستور الحالي الصادر في 2014. ما جرى من محاولات لتحديد دين للدولة أو وضع الدين ضمن الإطار العام الذي يحكم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية في مصر يشي بملاحظات عدة هي: 1 - استمرت عملية تحديد دين للدولة محل شدّ وجذب، لتعكس جانباً مهماً من الصراع المدني - الديني في المجتمع المصري من ناحية، ومدى توظيف الإسلام في كسب الشرعية من ناحية أخرى، أو خطب ود الجماعات الدينية المسيسة، أو الساعية إلى السلطة، أو استعمالها في تعبئة الشعب حول توجهات السلطة، مثلما استغل السادات المادة الخاصة بتطبيق الشريعة في تمرير مادة أخرى حولت بقاء الرئيس في السلطة من «مدتين» إلى مدد، وجاراه الإخوان والسلفيون في هذا. 2 - ظلت هذه المسألة محل اعتراض من مفكرين وساسة مدنيين احتجوا على ذلك بأن الدين مسألة تخص الأفراد، أما الدول فلا دين لها، لأنها لا تحشر في الآخرة، ولا تحاسب أمام الله سبحانه وتعالى. وأن أي تذرع بأن الدولة شخصية اعتبارية لتقبل فكرة أن يكون لهذه الشخصية دين هو تذرّع واه، ولا يمكنه أن يقيم حجة أو برهاناً، وليس إلا طريقة للتلاعب بمشاعر الجماهير، واستغلال تدينها في تعبئتها حول المشروع السياسي للجماعات الدينية الساعية إلى الحكم. 3 - تدخلت الدولة بغية التخفيف من غلواء استغلال الجماعات الدينية ذات المشروع السياسي عبر إسناد تطبيق «مبادئ الشريعة كمصدر أساسي للتشريع» إلى المشرعين أنفسهم، بحيث يضعون هم القوانين التي يمكن أن تعبر عن تجلي قيم الشرع وروحه وتصوراته العامة في التشريع، وهي مسألة حاول الإخوان والسلفيون الالتفاف عليها وقت صناعة دستور 2012 حين أرادوا أولاً، وفي شكل سافر، أن ينصوا على تفسير للشريعة وتحديد لها بأنها «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، في مذاهب أهل السنة والجماعة». لكن ضغط القوى المدنية جعلتهم يتراجعون إلى التحايل بالنص في المادة الثالثة بأخذ رأي هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية، مطمئنين إلى انتشار مناصري آرائهم بين علماء الأزهر، أو إلى السيطرة عليه في المستقبل جامعاً وجامعة ومعنى وفقهاً ورمزاً. لكن الدولة عادت مرة أخرى لتعيد الأمر إلى نصابه بالتعديلات التي دخلت على هذا الدستور عقب الإطاحة بحكم الإخوان. 4 - على رغم كل ما نصَّت عليه دساتير مصر من جعل الدين أحد الأطر الأساسية للسياسات العامة، وضمان عدم تعارض التشريعات والقوانين مع الشريعة، وتطبيق كل ما ورد في القرآن من تشريعات، مع استبدال الحدود بعقوبات أخرى، فإن أتباع التيار الديني الساعي إلى السلطة ظلوا طيلة الوقت يعبئون الناس حول مطلب تطبيق الشريعة، ويثيرون سخط قطاع منهم على السلطة بدعوى أنها تحارب الدين، ويرفعون في هذا شعارات من قبيل «الإسلام هو الحل» و «القرآن دستورنا» و «قادم قادم يا إسلام». وفي ركاب «ثورة يناير» استبدلوا هتاف الميادين «عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية»، ب «الشعب يريد تطبيق شرع الله»، وكأن الشريعة كانت غائبة عن حياة المصريين. 5 - لا تنشغل الجماعات والتنظيمات الدينية المسيسة بالانتهاك المستمر للدستور في غالبية مواده، بخاصة باب الحريات العامة والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وكل ما يعنيها طيلة الوقت هو نسبة وحجم ومقدار ومدى تطبيق مادة الشريعة، على رغم أن هذه الجماعات مختلفة في ما بينها عن تحديد ماهية الشريعة أصلاً. ثانياً: تطور المسعى إلى إقامة «دولة الدين»: ينبع هذا المسعى من تصور قديم، تحول بمقتضاه الإسلام إلى أيديولوجيا، حيث زعم الحكام أن مهمتهم ليست سياسة الدنيا فحسب، بل حراسة الدين أيضاً. وعلى رغم أن الجماعات والتنظيمات الدينية الساعية إلى حيازة السلطة السياسية في مصر لم تجهر صراحة بأنها تعمل على إقامة «دولة الدين» لكن جوهر مشروعها، وبعض أدبياتها، والكامن وراء سطور وكلام قياداتها يشي بأن هذا مقصدها من دون مواربة، وهو ما يظهر بجلاء في تعبيرها الأثير «دولة إسلامية»، المبثوث في خطابها وأدبياتها في شكل كبير. فالحديث عن «استعادة الخلافة» وما تسمى «دولة المدينة» و «تطبيق الشريعة» و «نصرة الإسلام» و «الجهاد» و «التماهي مع الأممية الإسلامية» و «أسلمة المعرفة» و «العصبة المؤمنة» والإسهاب في شرح أدوار سياسية وحربية للرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) مع أن مهمته كانت «نبوة» وليست «مُلكاً». هذا كله لا يخلو في أصله من استنبات «دولة الدين»، التي عبَّر عنها التصور المؤسس لجماعة الإخوان حين انطلق من أن الإسلام «دين ودولة، ومصحف وسيف». وبناء عليه ظلت الجماعات والتنظيمات الدينية المصرية، شأنها شأن أمثالها في بلدان عربية وإسلامية، تنازع الدولة في شرعيتها، مختلفة في وسيلة تحقيق أهدافها بين من يؤمن بالعمل الانقلابي العنيف، ومن يؤمن بالتدرج والتحايل. لكن مع مرور الزمن تبدلت الأدوار، ليصنع هذا المسعى عبر الزمن أشكالاً وأنماطاً متنوعة ومتدرجة ومتقلبة من التفاعل بين الدولة والجماعات الدينية المسيَّسة، مثل التحالف والتعاون والتنسيق ثم الانعزال والتنابذ والتنافس والعنف المتبادل والصراع الدموي. وهناك ملاحظات أساسية حول هذه المسألة، لا تخص الحالة المصرية فحسب إنما تنسحب على الحالة العربية - الإسلامية عموماً، ويمكن ذكرها على النحو التالي: 1 - تتعامل الجماعات والتنظيمات الدينية المسيَّسة مع الدولة باعتبارها فريضة دينية يتساوى إنكار ضرورتها مع الكفر الذي يحل به القتل، منطلقة من مقولات وتصورات قديمة تعتبر «الخلافة» ليست مجرد اجتهاد من المسلمين الأوائل كان يلائم زمانهم بل هي أصل من أصول الإسلام، ولذا فإن إقامتها واجبة، والكفاح من أجلها ضرورة، حتى لو انزلق هذا الكفاح إلى استعمال العنف المفرط ضد بقية المسلمين، ممن ارتضوا بالدولة الوطنية الحديثة، لاسيما ضد المفكرين والمثقفين والساسة التابعين للأحزاب المدنية، الذين يتعاملون مع «الخلافة» بوصفها شكلاً إمبراطورياً للحكم مثلما كان سائداً في القرون الوسطى ولم تعد إقامته ممكنة، فضلاً عن أنها غير مرغوب فيها، لأنها عودة إلى الوراء. 2 - لا تعد مسألة «تديين الدولة» و «دولنة الدين» سهلة، بأي حال من الأحوال، والفصل فيها ليس ببساطة فض نزاع بين دولتين على الحدود، أو بين شركتين على النقود، فمن الصعب إقناع قطاع عريض من الناس بحدود بين «الدين» و «الدولة»، لاسيما بعد الأفكار التي تم بثها في الرؤوس، عن تجربة الرعيل الأول من المسلمين أو «الفترة الكلاسيكية للإسلام»، والذين أعيدت صياغة تجربتهم لخدمة المشروع الإمبراطوري الأموي والعباسي والعثماني، بما دمج الدين في الدولة، والدولة في الدين، وجعل المسلمين المعاصرين يتحدثون عن أن تجربة الإسلام، وهم يقصدون في هذا تاريخ المسلمين، هي غير تجربة المسيحية الغربية. وفي هذا من دون شك تعمية على الدين لحساب الدنيا، وهروب من مواجهة الحقيقة التي تقول بوضوح إن المسلمين استبدلوا تجربة الرجال الأقدمين منهم بالقرآن وما ينص عليه ويطلبه ويوجبه ويفرضه. وفي الحقيقة لم تستسلم الحكومات التي تعاقبت على بلدان المسلمين لهذا الدمج، وحاولت طيلة الوقت أن تعيِّن أو ترسم حدوداً بين «الدين» و «الدولة»، تحت شعارات من قبيل «لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة» الذي أطلقه الرئيس المصري الراحل أنور السادات. لكن هذه الحكومات كانت مضطرة، في ردها على خطاب ومسلك الجماعات الدينية المسيَّسة، أن تترك الدين يمتزج بالدولة عند بعض أطرافها، وتقاوم في الوقت نفسه المتطرفين والمتشددين والمتزمتين والتكفيريين الذين لا يرضون عن «دولة الدين» بديلاً. 3 - بذلت الجماعات الدينية صاحبة المشروع السياسي، ابتداء من جماعة الإخوان التي أسَّست عام 1928، جهداً مضنياً، وجاراها بعض الباحثين والمفكرين والكتاب، في سبيل تحديد أطر وملامح أساسية لما يسمى «النظام السياسي في الإسلام» وتم تأليف آلاف الكتب في الاتجاه، وباتت هذه الكتب تسمم المجال الفكري العام للمسلمين المعاصرين. وعلى مستوى الجهد نفسه تُسخر هذه الجماعات جزءاً لا يستهان به من طاقتها في مقاومة الآراء التي تدحض وجهة نظرهم تلك، ويتم تشويه أصحابها من دون روية ولا ورع. 4 - استفادت الجماعات والتنظيمات الساعية إلى إقامة «دولة الدين» في تسويغ خطابها الذي يرمي لتحقيق هذا الهدف من إخفاق النخب اليسارية والليبرالية بشتى صنوفها، والتي حكمت البلدان العربية والإسلامية في مرحلة ما بعد رحيل المستعمر، في إقامة «دولة وطنية» راسخة المعالم، تتمتع بشرعية قوية، ورضا جماهيري واسع النطاق. وبات أتباع هذه الجماعات يردون على كل من ينتقد خطابهم قائلين: «لقد حكم الليبراليون واليساريون والقوميون وأخفقوا، فامنحونا فرصة، لأن مشروعنا هو الأحق بالاتباع والتطبيق». لكن حين وصل الإخوان إلى الحكم في مصر، اكتشف الناس أنهم لا يملكون سوى أمنيات حول الدولة التي يريدون بناءها، وأن مفهوم الدولة الوطنية والمدنية لم يرسخ في أقوالهم وأفعالهم. 5 - شكَّلت الجماعات الساعية إلى إقامة «دولة الدين» معضلة حقيقية أمام التطور الديموقراطي في مصر وغيرها، فابتداء هي لا تؤمن في دخيلة نفسها بالديموقراطية، وإن أظهرت عكس ذلك في مجاراة لمن حولها ومداراة عن حقيقة أمرها، أو في ظل تحايلها على القوى السياسية والفكرية الأخرى في سبيل دمجها في العملية السياسية والدفاع عنها، لاسيما لدى أصحاب الخطاب الحقوقي. كما أن وجود هذه الجماعات في الحياة السياسية والاجتماعية أعطى السلطات المتعاقبة فرصة لتوظيفها «فزَّاعة» للداخل والخارج، وانتهاج القمع، بدءاً من الخطاب وانتهاء بالممارسات ومروراً بالتشريعات، بدعوى أن هذا هو السبيل الوحيد لمواجهة المتطرفين وقطع الطريق عليهم حتى لا يختطفوا الدولة. وقد أعطت التجربة المصرية الأخيرة دفعة قوية لمثل هذا الخطاب في ظل ما ترتَّب على التجربة المزرية للإخوان في الحكم.