كما نفعل في كل ليلة من ليالي الصيف، التقينا في نور عمود الشارع. كانت الدور مفتوحة الأبواب، تجلس الأمهات على العتبات يرقبن من بعيد مجلس الرجال المجتمعين فوق المصاطب. اتخذت موقعي وسط حلقة الأولاد الجالسين. قلبت حدقتي العينين، ورحت اضرب بالعصا في كل ناحية صائحاً: تعال يا ولد لنسأل هذا المعلم كيف منحك هذه الدرجة الضعيفة؟ هتف الأولاد والبنات في صوت واحد: - لقد مللنا هذه التمثيلية، نريد شيئاً آخر. فتحت عيني، وألقيت العصا جانباً، وقلت بغضب: تقولون هذا، ولكنكم تضحكون في النهاية. - لن نضحك هذه المرة. إذن سأقلد لكم شحاته الخياط. وانحنيت بجذعي إلى الأرض، وثبَّت يدي اليمنى على ركبة الساق اليمنى، لأقلد في مشيتي تماماً كما يفعل شحاته عند مروره من شارعنا ذاهباً الى دكانه على الناصية. ولكنهم صاحوا مرة آخرى: - وهذه أيضا قد شاهدناها من قبل. - لا جديد عندك إذن. سأقلد لكم الناظر حين يخطب في طابور الصباح. - يكفينا ما نراه في المدرسة... نريد اللهو! لدى فكرة رائعة. وانتبهوا جميعا، وانصتوا لما سأعلنه عليهم. قاموا من أماكنهم وتزاحموا حولي. ولكن الولد إمام صرخ فيهم: - ليس لديه أية أفكار جديدة. قلت له بشماتة: ابتكر أنت يا ناصح. قال: سنلعب قطار الزعيم. وكيف تكون هذه اللعبة؟ وبدأ يشرح لعبته: - سننقسم إلى جماعتين، كل جماعة تقف على رصيف، تنظر بشغف الى بعيد بانتظار القطار الذي يحمل الزعيم، وسأختبئ أنا هناك في الظلام، وحين تسمعون صفارتي تصفقون بآخر العزم فيكم، وارفع أنا يدي اليمنى لتحيتكم بكل الوقار اللائق بالزعيم. قلت ساخراً: شاهدنا هذا بالفعل حين أخرجونا لنصطف أمام مدارسنا لنحيي الزعيم حين مر على بلدنا ذات يوم. - هيا نبدأ. وتراجعت كل جماعة إلى ناحية، بينما ذهب إمام خارج بقعة النور، واختفى هناك وراء جدار الحوش البعيد. وقف الأولاد يتلهفون إلى خروجه، تتقدمهم أياديهم بوضع الاستعداد للتصفيق. مالت الرؤوس نحو الجهة التي ذهب إمام إليها، ولكنه لم يظهر. ترقبوا .. وترقبوا... ولكن إمام لم يظهر أبداً. ماذا حدث له؟ قلت لهم: سأؤدي أنا دور الزعيم وسآتيكم من الجهة الأخرى. قالوا: فلننتظر قليلاً. وأخيراً جاء الصوت من بعيد .. سمعنا الصفير ولم نر جسد إمام بعد. بعد دقيقة لاح لنا بحلة الضابط التي ابتاعها له أبوه في العيد، يضم ذراعيه الى جنبيه ليجعل منهما مكبسين يدوران، ويطلق من حنجرته صفير القطار "وا ... وا .. وا ..". وحين دنا من النور اتضحت صورته. كان قد حط تحت أنفه شارباً مرفوعاً إلى أعلى، ومرر الخطوط السوداء الثقيلة فوق حاجبيه، فبدا لنا وقد تضاعف سنه. لما دخل بين الرصيفين رفع يمناه ليحيي الجمع بوقار، فالتهبت أكفنا بتصفيق شديد، كان يحيى ويطلق صفارة القطار في آن معاً، ونحن من جانبنا نضاعف التصفيق والهتاف: يحيا الزعيم... يحيا الزعيم. وانتبه الآباء الجالسون فوق المصاطب والأمهات القاعدات على عتبات الدور، وأشرقت الوجوه الكهلة ببسمة رائعة. وانطلقت أياديهم بالتصفيق للولد إمام، فقلت في نفسي: سأعيد هذه اللعبة أفضل منه. فارق إمام الرصيفين بهدوء. وحين خرج من بقعة النور، إنطلق مسرعاً نحو الظلام الذي استقبله من الجهة الأخرى. وهدأ الجمع، وتداخل الرصيفان، فوقفت بينهم، قلت: عودوا الى مواقعكم لأني سأكرر اللعبة. - ليست هذه لعبتك إنها لعبة إمام. - ولن تتقنها أفضل منه. - لك ألعابك الأخرى. هذه اللعبة ليست حكراً على أحد. - ولكنه هو الذي ابتكرها. وكان إمام قد عاد إلينا لاهثاً: - ما رأيكم؟ - هذه لعبة رائعة. وقلت لهم مستجدياً: امنحوني الفرصة وسأريكم كيف اؤديها أفضل منه. - لن يؤديها أحد أفضل من إمام. - سأل إمام: هل أعيدها عليكم؟ صاحوا بلهفة وهم يشكلون الرصيفين مرة اخرى: - هيا يا إمام. قلت لهم مهدداً: اللعبة هذه المرة من حقي. - شاهدنا ألعابك زمناً طويلاً. - امنح الفرصة لغيرك. لن أتركه يسيطر عليكم. - ولكننا فرحين بلعبته. كل واحد منا يلعبها مرة. - ليس كل واحد فينا معداً لذلك. وسألني إمام وهو يضع يديه في جنبيه: - وهل تمتلك حلة الضابط مثلي؟؟ لا يهم أن أكون ضابطاً. - كيف؟ وهل ترى زعيما بجلباب مرقع مثلك؟ فأمسكته من حلته، وكلت له ضربة في شاربه المرفوع تحت أنفه، وأسقطت النجوم عن كتفيه، وحجز بيننا الأولاد. ونزل الآباء عن المصاطب وقدمت الأمهات من جهة الأبواب المفتوحة. أُبعد كل واحد منها في ناحية... عاد إمام مع الأولاد إلى داره، وعدت أنا وحيداً، أفكر في لعبة جديدة تبهر هؤلاء الملاعين لأجعلهم ينسون لعبة إمام التي تحتاج لحلة الضابط.