قامت الحجّة الصهيونيّة الأمّ على معادلة بسيطة: المسيحيّون الأوروبيّون لا يريدوننا بينهم. إذاً ينبغي أن يكون لنا، نحن اليهود، وطن قوميّ ودولة في مكان ما خارج أوروبا. ولم يكن بلا دلالة أنّ الحركة الصهيونيّة تأسّست في مناخ قضيّة درايفوس التي كان الصحافيّ النمسويّ تيودور هرتزل يغطّيها لصحيفته. يومها استخلص هرتزل أنّ مرور أكثر من قرن على المساواة التي أعلنتها الثورة الفرنسيّة لم يكف للقضاء على اللاساميّة في فرنسا الكاثوليكيّة. هكذا اتُّهم زوراً ضابط فرنسيّ بريء هو درايفوس بالتجسّس للألمان، ومن خلاله وُجّهت التهمة إلى يهود أوروبا كلّهم. حجّة الصهاينة في مواجهة دعاة الاندماج اليهوديّ وجدت ما يعزّزها في الثورة الروسيّة ومآلاتها. ففي ثورة 1917، كانت نسبة مشاركة اليهود، بسبب اضطهادهم، أعلى كثيراً من نسبتهم إلى السكّان، وهذا ما انعكس في ضخامة وزنهم في الأحزاب الثوريّة بما فيها الحزب البلشفيّ. لقد تعلّقوا بالوعد التحرّريّ الانسانيّ الشامل الذي لا يخالطه تمييز في الدين والمذهب والقوميّة. لكنّ هزيمة التروتسكيّة ومن ثمّ تشييد السلطة الستالينيّة أعادا الاعتبار إلى اللاساميّة. الصهاينة وجدوا مادّة دسمة لمجادلتهم: ألم نقل لكم إنّ اليهود مرفوضون في أوروبا، لا فارق أكان الحاكم مسيحيّاً محافظاً أم شيوعيّاً ملحداً؟ اليوم تظهر في العالم العربيّ مسألة مسيحيّة يقول الذين يدافعون عن وجودها: إنّ الاضطهاد يحصل بحبيب العادلي ومن دون حبيب العادلي، لأنّ ثمّة إجماعاً يشمل الحاكم والمحكوم على رفضنا. هذا كلام فيه بعض الخطأ ممزوجاً ببعض الصحّة، لذا تحمل الفرضيّة تلك على قدر من التدقيق: ففي توزيع المسؤوليّات، مسؤوليّة الأنظمة أكبر لأنّها أنشأت الأوضاع التي تعيد إنتاج الطائفيّة وعدم التسامح. وعلى عكس اللاساميّة الأوروبيّة التي صعدت من الصلب الاجتماعيّ إلى منصّة السلطة، تلعب أنظمتنا دوراً أكبر في إنزال التعصّب من منصّة السلطة إلى الصلب الاجتماعيّ. وهذا ليس تبرئةً لذاك الصلب، بل هو اتّهام لتلك الأنظمة ولقيامها على تفتيت متواصل لمجتمعها هو علّة استمرارها ومصدر «حمايتها» لمن استضعفتهم. هكذا يخطئ المسيحيّون حين ينحازون إلى الأنظمة ظانّين أنّها «تخلّصهم»، فيما هي لا تفعل سوى توريطهم وتعميق ورطتهم. يفاقم هذا الاتّجاه أنّ الأنظمة المذكورة لا تمارس التفتيت المجتمعيّ من موقع فوقيّ عابر للجماعات، بل تقوم، هي نفسها، على الطائفيّة، وتستمرّ بقوّة فئويّتها. هذا لا يعني أنّ الأنظمة تصنع الطائفيّة، وأنّ الشعوب بريئة، كما لا يعني أنّ علاج الطائفيّة المحتقنة سهل، على ما يتخيّل كثيرون يتوزّعون على سائر المواقع السياسيّة والإيديولوجيّة. ما يعنيه ذلك أنّ الحلّ الإسرائيليّ كارثة: في أوروبا، حيث كانت اللاساميّة أضخم وأكبر وأفدح بلا قياس من الطائفيّة عندنا، اختير إنشاء دولة على حساب شعب بريء هو الشعب الفلسطينيّ. ليس هذا فحسب، إذ اليهود الذين أريد إنقاذهم من اللاساميّة الأوروبيّة، وجدوا أنفسهم، في الشرق الأوسط، يتقلّبون على نيران الحروب والتوتّر، فيما دولتهم ليست المكان الأمثل لأمنهم الفرديّ. أمّا اليهود الذين بقوا في أوروبا وشاركوا باقي الأوروبيّين همومهم وتطلّعاتهم ونضالاتهم، فهؤلاء هم الذين يتمتّعون اليوم بالمساواة الفعليّة وضمور اللاساميّة إلى حدود الاندثار، وهذا لأنّ أوروبا تغيّرت! إنّ مغامرة الرهان على التفاؤل التاريخيّ مطلوبة اليوم. هذا اضطرار وخيار في وقت واحد.