عندما سئل البطريرك الماروني السابق مار نصرالله بطرس صفير مرة عما اذا كان سيزور قصر المهاجرين، رد على سائله بسؤال مدوّ: أين يقع قصر المهاجرين؟ كان ذلك في لحظة سياسية يبدو فيها الرئيس السوري بشار الأسد أسداً فوق عرشه لا تزحزحه شدّة. لكن صفير لم يكن يومها في وارد الدخول في تسويات مع النظام البعثي في سورية، خصوصاً بعدما ربح، بانسحاب الجيش السوري من لبنان، جولة تحسب له، منذ ان اعلن النضال ضد الإحتلال السوري في العام ألفين. اليوم، والأسد ينهش معارضيه، يُسأل بطريرك انطاكية وسائر المشرق للموارنة مار بشارة بطرس الراعي، في غير مرة، عن زيارة سورية، فيقول إن الزيارة حتمية لأنها واجب لأبناء الرعية المارونية في سورية. والأسوأ، حينما يسأل عن وضع الأسد، يجيب أن من الواجب اعطاؤه فرصة ليكمل ما بدأه! أخطأ الراعي أكثر من مرة منذ تبوئه منصبه الجديد خلفاً لصفير. وإن كان قد ورث خطأً استراتيجياً سالفاً لوصوله إلى سدّة الكنيسة المارونية، هو تدخل هذه الكنيسة تاريخياً في الشأن السياسي اللبناني. لكن هذا النقاش فقد فاعليته في لبنان، مع فشل كل محاولات الفصل بين الدين والسياسة، مع تغلغل الطائفية في كل مفاصل الحياة السياسية اللبنانية. الراعي كرّس نفسه، منذ توليه منصبه الجديد، لحماية المسيحيين، وطرحهم دائماً على أنهم فئة مهددة بالإنقراض. ولتلك الغاية راح يجمع رموز المارونية السياسية في بكركي، ويحثهم على الإلتحام ونبذ الخلاف والإختلاف، في محاولة لجرّهم إلى الأحادية التي سقطت فيها الطوائف الأخرى، خصوصاً الطائفة الشيعية. بدأ البطريرك يتدخل في تفاصيل مثيرة للإشمئزاز، كأن يدعو في الاجتماعات هذه إلى منع المسيحيين من بيع أراضيهم للمسلمين لمنعهم من الهجرة، في خرق واضح لميثاق العيش المشترك. بدا الراعي في البداية نائياً بنفسه عن السياسة، منهمكاً في الطائفية، واضعاً نصب عينيه توحيد المسيحيين في مواجهة المدّ الإسلامي، ومع ذلك فشل في حل مشكلة اراضي الكنيسة في لاسا عندما اصطدم ب «حزب الله» وتحالفه مع عون، فجاراهما بتوجهاتهما. لكن البطريرك، حينما أفشى موقفه السياسي المضمر، تخلى عن خط سلفه، وهو الوارث موقفاً سياسياً تاريخياً لصفير بعد تحرير لبنان من الإحتلال الإسرائيلي، أشعل حينذاك الضوء الأخضر لبدء المسيحيين نضالاً سياسياً ضد احتلال الجيش السوري واستخباراته للبنان، وشجع هذا الموقف الرئيس رفيق الحريري آنذاك، ليبدأ انعطافة تاريخية هو الآخر ضد الوصاية السورية، ويبدأ العمل السياسي ضدها، بعدما حاولت مع حلفائها اللبنانيين اطاحته في انتخابات العام ألفين وفشلت بذلك، فأطاح به لاحقاً إنفجار السان جورج. وقد عانى صفير الأمرّين بسبب موقفه هذا، فحورب من حلفاء سورية في لبنان، حتى وصل انصار الوزير السابق سليمان فرنجية إلى تنصيبه بطركاً، في سخرية سافرة من مقام بكركي، وشاعت حينذاك عبارة رددها كثيراً أنصار سليمان بحضوره وغيابه: «انت البطرك يا سليمان». لكن في هذه العبارة شيئًا من الهزء بتدخل الدين بالسياسة، والردّ عليها بقلبها رأساً على عقب، بتدخل السياسة بالدين. والأمر نفسه حدث خلال زيارة رئيس تكتل التغيير والإصلاح ميشال عون مقام مار مارون في براد في سورية، وتحدثه ككاهن باسم المسيحيين وحمايتهم، فقيل يومها إنه جنرال إنطاكية وسائر المشرق، في دلالة ساخرة على تدخّله، وهو مدعي الإصلاح والعلمانية، في الشؤون الدينية والفئوية. ما يحدث مع البطريرك الراعي اليوم يتخطى هذه المعادلة. فما قاله عن اعطاء فرصة للأسد لإكمال ما بدأه لا يدخل في سياق السياسة ولا في سياق الدين. المسألة كانت تتطلب من مقام بكركي موقفاً إنسانياً ضد القتل، لا موقفاً منحازاً للنظام أو لمعارضيه. لكن بكركي اليوم تبدّي احتمال التنكيل بالمسيحيين مستقبلاً، بإعطاء الذريعة للتنكيل بالشعب السوري (ومنه المسيحيون) حاضراً. معادلة للأسف، تقاطعت مع موقف لميشال عون أكد فيه أحقية النظام السوري بقتل خمسة ملايين شخص لحماية نفسه. في هذا وذاك شيء من المازوشية، حينما تُغرم الضحية بجلادها، ولا ترى سواه منقذاً لها. * صحافي وكاتب لبناني