لا تدل الانهيارات الجديدة التي تشهدها البورصات العالمية منذ أواخر الأسبوع الأول من الشهر الجاري، وللمرة الثالثة منذ العام 2008، على تفوق دور المضاربات في التحكم بالاقتصاد وأسواق المال على دور صناع القرار السياسي فحسب، بل تشير أيضاً إلى أزمة اقتصادية بنيوية للغرب يشكل أرضيتها تزايد دور المشتقات المالية الافتراضية على حساب القطاعات الإنتاجية والديون الخيالية لبلدانه، من ضمنها الولاياتالمتحدة. وانطلاقاً من تداعيات أزمة الديون في منطقة اليورو، خصوصاً في اليونان والبرتغال، أتضح أن هذه الدول لن تتمكن من الوفاء بديونها، ما يعني شطب قسم منها شاء صناع القرار السياسي أم أبوا. ومع خفض وكالة «ستاندرز آند بورز» التصنيف الائتماني للولايات المتحدة للمرة الأولى في تاريخها، تزداد المخاوف أيضاً من عدم قدرتها على خدمة دينها الذي قارب حجم ناتجها المحلي الإجمالي المقدر ب15.2 تريليون دولار، في مقابل ديون تزيد على 14.3 تريليون دولار. ويزيد هذه المخاوف كساد الاقتصاد الأميركي تارة وبطء انتعاشه تارة أخرى، إضافة إلى تراجع قدرته على المنافسة. كانت الولاياتالمتحدة ومعها البلدان الصناعية الأخرى بحكم ملاءاتها المالية القوية، تستطيع حتى عهد قريب أن تقترض ما تشاء لتمويل عجزها وضخ استثمارات في إداراتها وقطاعاتها العسكرية والاستهلاكية وغيرها، ضامنة بذلك بقاء حيوية الطلب المحلي في أسواقها. غير أن تراكم ديونها في شكل خيالي وتراجع قدراتها التنافسية إزاء الدول الصاعدة وثقة المستثمرين الأجانب بأدائها الاقتصادي، إضافة إلى الأزمات المالية المتكررة، قلصت قدرتها على الاقتراض والاستثمار والتمويل بالعجز. وما ينتج فترات ركود مفتوحة الأجل، يزيد حدتها تجنب المستثمرين الأجانب من هذه البلدان أو تجنبهم لهذه البلدان بالذات، خوفاً على تراجع قيمة أصولهم أو ضياعها. وما مطالبة الصين الولاياتالمتحدة بضبط ديونها خوفاً على ودائعها بالدولار، ودعوتها لاعتماد عملة احتياط عالمية مستقرة بديلة له، سوى تعبير عن هذا الخوف الذي تشاركها فيه كل دول العالم التي لا مصلحة لها في انهيار الدولار قبل إيجاد بدائل له. ووصفت صحيفة «وول ستريت جورنال» التحذير الصيني بأنه دلالة على أفول نجم الولاياتالمتحدة لصالح الصين. وأشارت الى أن بكين تتنعم حالياً بمظلة احتياط ضخم من النقد الأجنبي، في وقت تصارع واشنطن والاتحاد الأوروبي أزمات ديونها. ويأتي الطلب الصيني بلهجة حادة وغير مألوفة انطلاقاً من خوفها على استثماراتها بالدولار، والتي يقدرها المراقبون بنحو ثلثي الاحتياط الصيني من العملات الأجنبية التي تزيد قيمتها على 2.3 تريليون دولار. وبذلك تعد الصين أكبر دائن للولايات المتحدة بلا منازع. ُتعدّ الدول العربية النفطية إضافة الى الصين واليابان، من أهم الدول التي تستثمر في سندات الخزينة وأسهم الشركات الأميركية وأصولها. وتقدر الاستثمارات في السندات الأميركية ب400 بليون دولار، إضافة إلى مبلغ مماثل في الأسهم والشركات. ويرى الخبير الاقتصادي صلاح الدين هارون أن انعكاسات الوضع السائد في الولاياتالمتحدة وأوروبا، ستكون كبيرة على اقتصادات الدول العربية التي تستثمر في الغرب أموالاً طائلة وتربط عملاتها بالدولار. وأعلن في مقابلة مع شبكة «دويتشه فيله» الإعلامية الألمانية، أن هذه الدول مرشحة للتعرض إلى خسائر كبيرة جداً تضاف إلى خسائر السنوات العشر الماضية التي لحقت بها بسبب تراجع سعر الدولار نحو 50 في المئة أمام اليورو خلال هذه الفترة. ويذهب عدد من الخبراء إلى حد القول إن الولاياتالمتحدة قد تضطر لرفض خدمة ديون أجنبية عليها ومن ضمنها الديون السيادية الخليجية في حال عجزت عن خدمة كل ديونها، لأن عجزاً كهذا سيضطرها إلى التركيز على تسديد الدين الداخلي لا الخارجي من أجل تجنب انهيار اقتصادي شامل. وفي حال تدهور العملة الأميركية خلال الفترة المقبلة، فإن عواقب خطيرة تحدق بالدول العربية، لأن عملاتها الوطنية ستتراجع بحكم ارتباطها بالدولار، ما يعني ارتفاع تكاليف واردتها التي تأتي في غالبيتها من خارج منطقة الدولار. كما سيعني تراجع القدرة الشرائية والحد من قدرة الناس على الاستهلاك والحفاظ على مستوى معيشتهم. انطلاقاً من هذه المعطيات فإن على الدول العربية المعنية الإسراع في إيجاد حلول كفيلة بتقليل حجم الخسائر قدر الإمكان، من خلال إعادة هيكلة استثماراتها في الغرب والتوجه نحو مزيد من الاستثمار المباشر والإنتاجي في أسواقها المحلية أولاً ومشاريع إقليمية ثانياً، لأن من شأن استثمارات كهذه تنشيط هذه الأسواق وزيادة فاعليتها واستقلالها وقدرتها على تحقيق نقلة على صعيد توفير اكتفائها الذاتي من السلع الزراعية والصناعية والخدمية. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية – برلين