قد يكون مثيراً للانتباه في هذه الأيام أن تتوتر العلاقات الديبلوماسية، وعلى نحو متزامن تقريباً، بين مصر وتركيا من جهة والدولة العبرية من جهة أخرى. يمكن بالطبع ربط التوتر هذا، في ما يخص مصر، بحادثة مقتل الجنود المصريين الستة داخل الأراضي المصرية الحدودية، وبمضاعفات الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية، في ما يخص تركيا، ومقتل تسعة مدنيين أتراك وامتناع الدولة العبرية عن تقديم اعتذار رسمي واضح تصر حكومة أنقرة بقيادة رجب طيب أردوغان على ضرورة حصوله منعاً لتفاقم الاضطراب في العلاقات بين الطرفين. صحيح أن حادثة الاعتداء على السفينة التركية حصلت قبل اندلاع الانتفاضات العربية وسبقها انعطاف حذر ومدروس في السياسة الإقليمية التركية كما قادها ولا يزال «حزب العدالة والتنمية»، خصوصاً منذ الاجتياح الأميركي - البريطاني للعراق. أما في الحالة المصرية فالأكيد أن الانتفاضة المصرية هي التي أملت تعديلاً في السياسة الإقليمية بعد سنوات طويلة من تكلس السياسة الخارجية بحيث اقتصر «إبداع» النخبة الحاكمة على التفنن في الفساد والنهب وتدجين الشعب. وليس معروفاً حتى الآن، في ظل غموض اللعبة الداخلية واصطفافات أطرافها المتنافسة، لا حمولة التعديل ولا حدوده وإن كان الحديث عن فتح معبر رفح عرف بعض الضجيج الذي سرعان ما خفت بعد أن تبينت محدوديته ما ولّد الانطباع بأن التعديل المذكور ليس سوى عملية ترشيق للأداء المصري في السنوات الأخيرة من عهد حسني مبارك. وكانت المطالبة التركية بمعاقبة الحكومة الإسرائيلية قانونياً وديبلوماسياً وسياسياً عالية النبرة وعولجت بطريقة لا تخلو من التسويف والمراوغة وفق ما يستفاد من الإعلان عن تشكيل لجنة محققين دوليين شارك فيها مندوب إسرائيلي. وجاء تقرير «بالمر» أخيراً مخيباً لآمال الحكومة التركية ما حضها على تصعيد اللهجة وطرد السفير الإسرائيلي والتهديد بقطع العلاقات الاقتصادية وتجميد الاتفاقات السابقة. قصارى القول إن الحراك الشعبي في غير بلد عربي بات يشكل خلفية ضاغطة ووازنة لعملية إعادة التموضع والتموقع لدى دول المنطقة وفي مقدمها الدول ذات البعد والطموح الإقليميين. يغلب على الظن أن الاستحقاق الفلسطيني المتمثل في طرح شرعية الدولة في الأممالمتحدة والاعتراف بها بالاستناد إلى القرارات الدولية بهذا الشأن، والرفض الأميركي لأي اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية يأتي خارج المفاوضات مع إسرائيل، هذا الاستحقاق بات ماثلاً لاعتبارات بديهية في أفق التوجهات والسياسات الإقليمية لدول المنطقة. وتزداد أهمية الرهانات المعقودة على الاستحقاق الفلسطيني وتبعاته ومستلزماته بالنظر إلى الأزمة السورية المفتوحة على احتمالات قد تكون كارثية بسبب تعنت النظام وإمعانه في ابتزاز الداخل والخارج الإقليمي والدولي على حد سواء. فمن المعلوم أن انقلاب الوضع السوري، أياً يكن شكله ومضمونه أو حتى اضطراب المسار الذي قد ينطوي عليه، سيلقي بثقل استثنائي على خريطة المواقع الإقليمية لدول المنطقة. وفي هذا السياق يمكننا أن نضع النشاط السياسي والديبلوماسي للحكومة التركية ورئيسها كما يفهم من زيارات أردوغان لبلدان الثورات العربية ومن الكلمة التي ألقاها أمام وزراء الخارجية العرب في القاهرة قبل أيام قليلة. ولكن، من المبكر ربما الحديث عن حلف تركي - مصري وإن كانت كلمة أردوغان القوية والواضحة في دار الأوبرا المصرية تجيز الاعتقاد بتوفر شروط مثل هذا الحلف وحظوظه. لا يمنع هذا أن الجماعات الإسلامية التي رحبت بالزيارة وأطلقت شعارات عن الأخوة بين البلدين المسلمين الكبيرين منادية بتجديد الخلافة الإسلامية، شعرت بالصدمة من خطاب أردوغان المتمسك بالدولة العلمانية المدنية وبتوافق الإسلام مع الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. لم يكتف أردوغان، في خطابه في القاهرة، بمخاطبة الحساسية الوطنية المصرية مشدداً على أن تركيا والعرب يشتركون في العقيدة والثقافة والقيم، وداعياً إلى «صياغة مستقبل تركي - عربي مشترك يقوم على الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان». ذلك أنه في معرض إشادته بدور الشباب في مصر وتونس وليبيا، قارن بين ثوار مصر ومحمد الفاتح معتبراً أنه «كما كان في التاريخ التركي شاب قام بإنهاء حضارة سوداء ودشن حضارة جديدة عريقة عندما فتح اسطنبول وهو محمد الفاتح، فإن هناك شباباً في مصر أغلقوا صفحة وفتحوا صفحة حضارة جديدة». ويمكننا أن نضيف تعداد الرجل المحنك لأيقونات التاريخ والثقافة المصريين واضعاً على قدم المساواة مكانة الجامع الأزهر في التاريخ الإسلامي ومعلم ثقافي مثل المطربة أم كلثوم. سنضع جانباً براعة الزعيم التركي البلاغية وجاذبية أسلوبه الذي يراعي المزاج والمخيلة التاريخية الخاصين بكل بلد، لنلتفت إلى نقطتين أبرَزَهما خطاب الزعيم التركي الإسلامي. النقطة الأولى تتعلق بتركيزه على ضرورة أن يتمتع أي نظام بشرعية شعبية تضمنها الديموقراطية والمساواة بين كل الأديان ومن هنا وجوب الاستجابة للمطالب الشعبية. النقطة الثانية تتعلق بمقاربته للإسلام باعتباره رافعة حضارة وهوية ثقافية، علاوة على كونه ديناً في المعنى الحصري للكلمة. وبهذه الطريقة يستأنف أردوغان، ومعه وزير خارجيته أحمد داود أوغلو الموصوف بمجدد الرؤية العثمانية، خطاباً إسلامياً حديثاً هو أقرب إلى خطاب الإصلاحيين العثمانيين المعترضين على أوتوقراطية رجال التنظيمات منه إلى خطاب المدافعين عن الخلافة الإسلامية كما شاعت في أدبيات المقربين من والمدافعين عن استبداد السلطان عبد الحميد الثاني. أن يقول أردوغان مثل هذا الكلام في القاهرة إنما هو غمز من قناة التفاعل المباشر أو غير المباشر بين البؤر المدينية الكبرى التي اختبرت أكثر من غيرها في تاريخنا الحديث احتكاك المجتمعات الإسلامية بالحداثة الأوروبية وما نجم عن هذا الاحتكاك من تحولات مشوبة بالاضطراب طاولت جملة شروط الحياة والدخول في العصر. فلنقل على سبيل الاختصار والترميز إنها اسطنبولوالقاهرة وطهران. وقد حرصت سياسات السيطرة الغربية الاستعمارية وما بعد الاستعمارية على الحيلولة دون استواء هذه البؤر المسكونة أصلاً بالتنافس في مدار مشترك. خلال الحرب الباردة عملت تركيا العسكرية وإيران الشاهنشاهية على عزل مصر الناصرية. وليس مستبعداً أن يكون عزل إيران في أفق السباق الجاري على التحكم بمسارات الثورات العربية. التقارب التركي - المصري في هذه الحالة سيكون ضرباً من الممانعة المعتدلة إذا كان ثمة معنى فعلي لهذه العبارة. ذلك أنه يستدعي تقليم أظافر الدولة العبرية كي لا نقول عزلها.