من المفيد، إذا تركنا جانباً موقف المعارضة السورية التي ترفض بغالبيتها التدخل الخارجي، وأيضاً الشعارات التي رفعها المتظاهرون في غير مكان وتطالب بحماية دولية للمدنيين، الوقوف عند أهم الإشارات والمعطيات الدالة على تنامي الرغبة لدى أطراف دولية وإقليمية وعربية في معالجة سريعة للاستعصاء السوري ولو تطلب الأمر تدخلاً خارجياً مباشراً أو غير مباشر. بداية نعترف بأن هناك حرصاً دائماً لدى أهل الحكم في سورية على إهمال العامل الخارجي واعتباره ليس بذي قيمة، وصل الأمر أحياناً إلى حد شطبه من حساباتهم نهائياً، ربما لأنهم استطاعوا التكيف مع فترات الحصار المتكررة وتمكنوا من جعل تأثيرات الخارج في شؤونهم الاقتصادية والسياسية هامشية ومحدودة. وربما لتأكدهم من أن للخارج مصالح يركض وراءها على حساب مواقفه ومبادئه، وسيأتي إليهم صاغراً، طلباً لها، ما ان تحسم الأمور لهم، وهم الذين فكوا العزلة الطويلة التي فرضت عليهم بعد اغتيال رفيق الحريري، وامتلأوا ثقة بأن خروجهم أقوياء هو ما فرض على الآخر إعادة النظر في مواقفه، وربما لأن لديهم خارجاً آخر قوياً، إيران وحلفاءها، يعوض خسائرهم ويمكنهم من المقاومة والصمود في مواجهه أي حصار أو مقاطعة! صحيح أن النخبة الحاكمة تتصرف كأنها لا تأبه بالمواقف الدولية والعربية، وواجهت الاحتجاجات كأنها تتمتع بحصانة تجاه استخدام أشنع وسائل القمع والتنكيل طلباً للحسم، مستهترة بالمعالجات السياسية وبالدعوات المتعددة للبدء بإصلاحات جدية ترضي المتظاهرين وتخفف التوتر والاحتقان، وصحيح أن ردود الفعل الخارجية كانت بطيئة ومترددة ولم تكن على مستوى الحدث السوري أو لم ترق إليه، لا بالزمن ولا بالمواقف، مقارنة مع سرعتها وقوتها تجاه الأحداث العربية الأخرى، لكن الصحيح أيضاً، أن استمرار الانتفاضة الشعبية بهذه الصورة البطولية، وما قدمته من ثمن باهظ في أعداد الضحايا والجرحى والمعتقلين، زادا في شكل كبير مساحات التعاطف الأخلاقي مع السوريين لدى الشعوب والمنظمات الحقوقية والمؤسسات الإنسانية، ما أحرج السياسات الرسمية ودفعها للتلاقي موضوعياً على رفض استمرار ما يحصل والبحث عن مخارج عاجلة للأزمة! هذا الدافع لم يكن وحيداً، إذ إن اكتظاظ المشهد السوري بصور الضحايا وتخبط نظام لا يريد التراجع عن توغله في الحملة الأمنية، أو ربما لا يستطيع ذلك إن أراد، فضلاً عن حصار وعزلة سياسية وأيضاً عقوبات اقتصادية ومالية لم تجدِ نفعاً، كل ذلك وضع الأطراف الغربية والعربية أمام خيار استثمار هذه الأزمة المتفاقمة لإحداث تغيير جذري في سورية يفضي إلى إعادة رسم الاصطفافات والتحالفات، وأمام ضرورة التدخل الخارجي كمثل «الكي آخر العلاج» لتحقيق هذا الهدف. فكان أن أعلنت غالبية الدول الغربية فقدان النظام لشرعيته ودعته الى التنحي، زادها حماسةً نجاح التدخل العسكري في إسقاط القذافي وتغيير الصورة التي رسخت في الأذهان عن التجربة العراقية، عززتها المصالح الأوروبية الراغبة في المشاركة في إعادة صياغة المشرق العربي، بالتكامل مع المطمع الأميركي ورهانه على التغيير في سورية كمدخل لتحسين أوراقه، ولإضعاف حكومة المالكي المدعومة إيرانياً والضغط عليها لتليين موقفها الرافض بقاء قوات رمزية أميركية (16 ألف جندي) بعد نهاية العام الجاري! وإذا أضفنا ما رشح عن غير مسؤول إسرائيلي، من أن بقاء النظام السوري بعد هذه الأزمة العاصفة واضطراره للالتحاق أكثر بالموقف الإيراني يفقدانه دوره كعامل استقرار، يمكن أن نقف عند أهم المعطيات التي صنعت توافقاً غربياً حول ضرورة التدخل في الشأن السوري، والتي تفسر العودة المحمومة الى المسعى الفرنسي - البريطاني لتمرير قرار في مجلس الأمن يدين الاستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين في سورية كمقدمة لتصعيد دور الخارج في تقرير مصير الأزمة السورية. أما الحكومة التركية التي لم تختر الطريق ذاته ولا تزال تنأى بنفسها عن اتخاذ موقف قاطع من تغيير الحكم السوري، فواضح أن طابع العلاقات بين الطرفين وأسباب التواصل انحسرت إلى حد بعيد، بخاصة أن أنقرة فقدت الثقة بإمكانية تبني سياسة إصلاحية جذرية، وتتحسب جدياً لاحتمال تنشيط حزب العمال الكردستاني الذي تربطه بالنظام السوري صلات وثيقة. ولا يمكن أنقرة أن تصمّ أذنيها وتهمل الأصوات المتعالية في الداخل التركي أو على الصعيد العربي والإسلامي المنتقدة سياستها المترددة والمهادنة تجاه ما يجري في سورية، الأمر الذي يفقدها تدريجاً صبرها وقدرتها على التحمل، ويرجح أن يؤهلها، وهي المنضوية في إطار الحلف الأطلسي، للعب دور مفتاحي في التسخين السياسي مثلاً بإثارة أوضاع اللاجئين السوريين كقضية إنسانية لا تحتمل الحياد، أو إعلان منطقة عازلة على الحدود المشتركة بين البلدين لحماية المدنيين من البطش والتنكيل، ومن هذه القناة يمكن النظر إلى تصريحات رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بأن سورية تتجه إلى وضع شبيه بالوضع الليبي! وحين تبادر السعودية ودول أخرى في مجلس التعاون الخليجي إلى سحب سفرائها من دمشق للتشاور، وتعلن قطر ومصر فشل الحل الأمني في سورية وتدعوان إلى وقف العنف فوراً والاستجابة لمطالب الناس، فهذا يؤكد وجود مصلحة عربية مشتركة تطالب ضمناً أو علناً بضرورة التغيير السريع في سورية وتجد أن بقاء المشهد على هذه الشاكلة لم يعد مقبولاً، ربما تفادياً لتداعياته وآثاره التي بدأت تنعكس في الأوساط السياسية والشعبية في بلدانها! وليست المبادرة العربية المفترض أن يعرضها الأمين العام للجامعة العربية على الحكومة السورية سوى خطوة على هذه الطريق، يعززها تقدم وزن بعض الأطراف المناهضة للنظام السوري في الحكومات العربية التي تنادي بضرورة التخلص منه، زادها تأثيراً شيوع اقتناع بأن تعقيد الأزمة الراهنة سيدفع النظام إلى نقل تحالفه مع إيران إلى مستوى غير مسبوق وأخطر على أمنها ونفوذها. إن وضوح هذه المؤشرات والمعطيات، لا يعني أن التدخل الخارجي في الأزمة السورية صار قاب قوسين أو أدنى، بل هو مشروط بتوفير غطاء دولي أو قرار أممي يتطلب تحييد الموقف الروسي، والأهم توافق كل الأطراف على تصور للبديل المرجح لقيادة العملية الانتقالية في سورية، وتالياً على أسلوب هذا التدخل وحدوده وألا يفضي إلى زعزعة استقرار المنطقة برمتها في حال اتسعت رقعة المعركة لتشمل القوى الداعمة للنظام، كإيران وحلفائها. وفي المقابل يبقى الإصرار على الخيار الأمني والتوغل أكثر في العنف، تالياً رفض اللجوء الى المعالجات السياسية - وأولاها الاعتراف بالأزمة وإزالة أسبابها المستمدة من المناخ القائم على القمع والفساد والإقصاء - أحد أهم الأسباب التي تترك البلاد نهباً للتدخلات الخارجية!