في ديواني «ارفع رأسك عالية» لحلمي سالم، و «أنجيل الثورة وقرآنها» لحسن طلب، الصادرين أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يعيد الشاعران المصريان وظيفة الشاعر الأولى في كونه بوق دعاية ومعبراً عن صوت القبيلة، يتغنى بانتصاراتها ويبكي على أطلالها وأيامها، ومن ثم حرما الجمهور من العين البصيرة الباحثة عن تفاصيل الذات وسط هذا المنجز المتعلق بصورة الثورة المصرية في ميدان التحرير. في ديوان «ارفع رأسك عالية»، استسلم حلمي سالم للتغني بمفردات الثورة من «الجيش» و «الشعب» و «الشهداء» من دون الاهتمام بإنتاج أي وعي معرفي جديد قد يخرج بالنص من ورطته الغنائية إلى جماليات القصيدة الحديثة التي طالما كتبها ونظّر هو شخصياً لها، فيقول: «لكن العسكر في مصر الغضبانة صاروا مختلفين، أخذوا ورداً من صبيان الحارات وحطوه على ماسورات المدفع مسرورين وحنانين»، وهو هنا يتماهى مع الخطاب الإعلامي الرسمي، على حساب الشعر. ويتحدث سالم عن زمن ما قبل الثورة، فيقول: «نبدد حقل القطن لنستورد أقمشة من شركاء الدرب... نحوّل أفدنة القمح إلى منتجعات مغلقة حتى نرتاح هنيهات من رهق النهب ونجلب قمحاً من خلف البحر مليئاً بالسرطان لينتعش المستشفى الاستثماري». وناهيك عن المباشرة غير الغنية وغير المنفتحة على أية دلالات سواها، يعيد النص إنتاج الخطاب العام للمعارضة تجاه النظام القديم، ولا عزاء لمن وراء هذا المنتج النصي. وحتى في قصيدة «سالي زهران»، فحين حاولت الذات المنتجة للنص التعبير عن نفسها للمرة الأولى في منتج ملحمي غنائي، بالقول: «لو كنت رأيتك قبل يناير كانت أسرتني عيناك الصاحيتان»، يظهر الفارق بين جيلين عائقاً بلا أي صراع يذكر أو يشي بتوالد الشعرية عنه، فيقول: «كنت سأشكو صبحاً ومساء من جلستك الأبدية قدام الحاسوب»، ومع ذلك لا تستسلم الذات الشاعرة وتفتح باب التنظير لا التأويل الجمالي بقولها: «إن السبعينيين كأمثالي عصريون وإن الأجيال الحية حلقات متواصلة». ويستعرض النص قضايا ما بعد الثورة، متبنياً الخطاب التقليدي ومعطلاً الطاقات الشعرية لديه إلى ما لا نهاية. فهو يتحدث عن المشكلة الطائفية قائلاً: «كان رصاص القناصة ليس يفرق بين خطيب الجامع والقس/ الشهداء سواسية كالمشط/ فلماذا صار شقيقي جهماً يتربص بي». وينتهي النص بالتغني ب «الربيع العربي» عموماً، فيتشابه الحلم وتتشابه الثورات، وتعيد الأنظمة القمعية تكرار خطابها، فيقول على لسانها: «سئمت السلطان، لكن ضميري يأبى أن أترككم للتيه وللفوضى»، ويستعرضها ثورة بعد أخرى، خالصاً إلى أن «الحرية واحدة/ والقضبان السجانة واحدة/ بينهما مشوار من جثث/ وسماء من عصف مأكول». أما حسن طلب فيتغنى في «إنجيل الثورة وقرآنها»، بالثورة المصرية ويؤرخ لها من منطق قبلي، قائلاً: «أسطورة الثورة في الميدان واقعية/ ساحتها ميداننا/ أبطالها أبناؤنا/ وقد رووها بالدماء الحرة الزكية/ ورفرفت إيزيس في فنائها/ فباركت ثوارها/ واصطحبت إلى الخلود شهداءها/ من أجل هذا كانت الثورة مصرية». وهو يتحدث عن النظام القديم بحرية أكثر، قائلاً: «أمضى ثلاثين من الأعوام/ لم يشبع ولم يقنع بما أمضى/ كيف بمن ظل على الكرسي طول هذه الحقبة/ يبقى طامعاً أيضاً». لكن طلب أوغل أكثر من سالم، فتحدث عن الاتهامات التي تواجهها حركة 6 أبريل، أبرز الحركات التي فجرت ثورة 25 يناير في مصر، وهاجم الجماعات التي تتخذ من الإسلام ستاراً لخطابها الإعلامي، فيقول: «نحن الذين اتهمونا أننا في الأصل كنا: مستهل الهرج والمرج/ نحن من المصنع أشعلنا لكم شرارة الثورة/ قدنا هذه الحملة قلنا: فاحملوا الشعلة واصعدوا بها الدرج»، في إشارة إلى أحداث 6 أبريل من عام 2008. وعلى لسان جماعات الإسلام السياسي، يقول: «وجدنا الثورة اشتعلت، فقال المرشد الأكبر/ عليكم غزوها في عقر موقعها من الميدان/ سيروا بالألوف/ تسللوا بين الصفوف كأنكم منهم/ فإن دان المكان لرهطكم وتواطأ العسكر/ فقولوا: نحن قادتكم علينا هديكم»، ليتبنى في النهاية خطاب المعارضة كما هو، ومن دون أي محاولة لتفجير دلالاته، ويستمر في استعراض قضايا ما بعد الثورة لينتصر للحرية والتمييز، فيقول: «سيكون السكان سواسية فيه/ فلا فرق بين الحاكم والمحكوم/ أو المسلم والنصراني/ ولا عبرة بالتذكير والتأنيث». لكن ما فجر الشعرية عند الذات الشاعرة كان حديثها عن الصراع الجمالي مع الآخر، فها هي «شهد» من أبناء الثورة المضادة، ويحاول النص جاهداً لإقحامها في فرح الثورة، فيقول لها: «لا تحرمي الثورة من ريحانها/ لا تحرمي الميدان من وردته الندية/ ما قيمة البستان دون وردة الحب/ ومن دونك يا مليكتي/ ماذا عسى أفعل بالحرية». والذات المنهكة بالملحمة الغنائية تجد نفسها عبر الصراع الجمالي مع «شهد»، فيقول: «كان مما قاله الميدان للفتى/ ظل مرابطاً هنا/ شهد ستأتيك غداً/ بفتنة الأنوثة السخية»، لكن تظل أسيرة للفكرة الملحمية (الميدان والثورة)، فتقول: «لم يبق سوى الجيش/ فعاش الجند وعاش الضباط الوطنيون/ وسائر أفراد الجيش»، رغم أنها تتساءل عن موقفه في ما يسمى إعلامياً ب «موقعة الجمل»، فتقول: «كنا ولم نفهم لماذا بقي الجيش على حياده/ وكيف لم يتخذ القرار».