لقي الانقلاب العسكري الليبي، الذي جرى السبت في الفاتح من أيلول (سبتمبر) 1969، ترحيباً كبيراً في الشارع العربي، كما استقبلته ببهجة عواصم متخاصمة مثل قاهرة جمال عبدالناصر والنظامين البعثيين في دمشق وبغداد المتخاصمين مع بعضهما بعضاً ومع الرئيس المصري: كان هذا انعكاساً للتركيب الأيديولوجي السياسي للضباط الانقلابيين في طرابلس الغرب الذي راوح بين الفروع الثلاثة للتيار القومي العروبي، أي الناصري وحركة القوميين العرب والبعثي، قبل أن ينفرد العقيد معمر القذافي، الذي تلقى تأثيرات هذه الفروع الثلاثة شخصياً، بالسلطة بدءاً من عام 1973. هذا لا يعني أنه لم تكن هناك أسباب ليبية للانقلاب (مع تسجيل أن الترحيب الاجتماعي به لم يكن بتلك القوة الكبيرة بخاصة في المنطقة الشرقية وفي العاصمة طرابلس) يمكن إدراجها في ضعف الحكم الملكي في الاقتصاد والإدارة، إلا أن الأسباب الجوهرية التي ساقها الانقلابيون ضد الحكم كانت تندرج في تبعيته للغرب الأميركي والأوروبي، في ظرف ما بعد الهزيمة العربية في حزيران (يونيو) 1967، وضرورة التلاحم الليبي مع الرئيس عبدالناصر في تلك الظروف، وهو أمر لم يفت القاهرة عندما نظرت إلى الانقلاب الليبي، وأيضاً انقلاب جعفر النميري في الخرطوم في 25 أيار (مايو) 1969، بصفتهما تعزيزاً لوضعها في مرحلة ما بعد 5 حزيران 1967. لم تهتز صورة القذافي كثيراً على الصعيد العربي عندما دعم الرئيس السادات في 15 أيار 1971 في انقلابه الأبيض على مجموعة (علي صبري - شعراوي جمعة) في القاهرة وهي كانت أكثر قرباً من الرئيس جمال عبدالناصر (توفي في 28 أيلول / سبتمبر 1970)، ثم عندما أجبر طائرة الخطوط الجوية البريطانية على الهبوط في مطار طرابلس ليعتقل المقدم بابكر النور رئيس مجلس قيادة الثورة المعين إثر انقلاب 19 تموز (يوليو) 1971 الشيوعي في الخرطوم ضد النميري ومعه عضو المجلس الرائد فاروق حمد الله قبيل ساعات من تحرك قوات موالية للنميري، بدعم من قوات مصرية، في يوم 22 تموز لسحق الانقلاب الشيوعي وسط تردد سوفياتي وتأييد غربي وعربي ما عدا بغداد للرئيس السوداني. على العكس من المتوقع حيال هذه المواقف، فإن عروبيين كثيرين، ويساريين، وبخاصة في المنظمات الفلسطينية التي تمركست وهي التي كانت في الأصل في بوتقة حركة القوميين العرب، ظلوا ينظرون إلى القذافي، طوال عقد السبعينات وحتى النصف الثاني من الثمانينات، من منظاري مواقفه «العروبية» و «عدائه للغرب»، ربما بسبب إحساسهم بتراجع العروبة وبخطورة التقدم الغربي في المنطقة، وضرورة الإمساك بأي حبل ل «الإنقاذ» و «التصدي والصمود» في هذين المجالين. هذا أدى إلى مكانة معنوية للقذافي على الصعيد العربي لم يتمتع بها يوماً واحداً في ليبيا طوال فترة حكمه، فحكم بالحديد والنار واستخدم أموال النفط على هواه. وكان امتلاكه الريع النفطي، متحداً مع القمع، مؤدياً إلى فترة حكمه المديدة وإلى استعصاء التغيير في بلد استطاع حاكمه أن يمسح طاولة السياسة ليحتكرها في شخصه. لم يقد وضع كهذا سوى إلى المفارقة بين قلوب الغالبية الكاسحة من الليبيين وبين ميول جيوش من الساسة والمثقفين والصحافيين العرب الذين دعمهم القذافي بأموال الشعب الليبي من أجل تسخير منظماتهم وأحزابهم أو لإنشاء جرائد ومجلات (بعض المجلات كان له طابع فكري - ثقافي) سياسية، أو لتمويلها. وحتى عندما نشر القذافي «الكتاب الأخضر» عام 1977، وهو نص بلا قيمة فكرية أو ثقافية بكل المعايير، وجد الكثير من المثقفين، وبعض المفكرين، الذين مارسوا عملية التبخير لذلك النص، ولم يوجد أحد من العرب من قال بضرورة وضع حد لهذه الحالة التي كانت أقرب إلى المهزلة الفكرية - الثقافية التي مارسها رئيس عربي ظنَّ نفسه من خلال ذلك النص أنه قد وضع «النظرية العالمية الثالثة». وهذا ما ينطبق - في المناسبة - على بعض المفكرين الذين، وإن لم ينخرطوا في إحدى الحالين، إلا أنهم شجعوه على غيِه من خلال الذهاب إلى خيمته الشهيرة ومن ثم القبول بالتمويل الليبي لمجلة فكرية - ثقافية أنشئت في الثمانينات. في هذا الإطار، ربما لم تحصل ترجمة لهذه المفارقة بعد، وإن كان أي ملاحظ دقيق لمشاعر الليبيين، منذ ثورتهم على القذافي في 17 شباط (فبراير) 2011، يلمس إحساساً بالمرارة من العرب الآخرين، تراكمت ذراتها، ذرة فذرة، طوال واحد وأربعين عاماً ونصف العام كانوا فيها مكتوين من حاكمهم فيما كان الكثير من العرب، ساسة ومثقفين وأناساً عاديين يمدحونه ويحملون المباخر له ويدعمونه، وإن كانت الوثيقة التي أصدرها المجلس الوطني الليبي الانتقالي أوائل آب (أغسطس) 2011، تحوي إرهاصاً أولياً بذلك عندما خلت من إشارة إلى عروبة ليبيا. على كل حال، وعلى رغم المرحلة التي انطفأ فيها نجم القذافي المالي عندما دخل تحت الحصار الدولي منذ عام 1992 بسبب قضية لوكربي، فإن خروجه من هذا الحصار في الشهر الأخير من عام 2003 كان عبر تسليم كل أوراقه لمحاصريه الغربيين مقابل أن يبقى في كرسي السلطة. وقد كان اتجاهه نحو «النزعة الأفريقية» ونبذه للعروبة، أحد الأثمان المطلوبة في تلك الصفقة. على رغم هذه الاستدارة الكبيرة عند القذافي التي هي أقرب إلى السقوط المعنوي، الذي يقال إن أحد أسبابه المباشرة كان الصورة التلفزيونية لصدام حسين عندما ألقي القبض عليه في العراق قبل أسبوع من ذلك القرار الليبي، فإن أحداً من العرب لم يقم بمحاولة جدية لمراجعة المسار السياسي لقائد عربي كان في الواقع واسع التأثير عربياً لفترة طويلة وصلت إلى ثلث قرن، وكان أحد التجسدات الكبيرة للتيار القومي العروبي بفروعه الثلاثة. هذه المراجعة أيضاً لم تحصل خلال الأشهر الستة التي تفصلنا عن 17 شباط 2011. هنا يبدو أن العرب لا يميلون إلى المكاشفة القاسية للنفس، ولا إلى النظر إلى أنفسهم في المرآة، وبخاصة عندما تكون الوقائع المكوِنة للحقيقة قاسية ومؤلمة، ما يتطلب الوصول إلى استنتاجات مؤلمة فكرياً، ومن ثم ثقافياً، وبعده سياسياً. هذا لا ينطبق فقط على التيار القومي العروبي، بفروعه الثلاثة: الناصرية والبعثية وحركة القوميين العرب، وإنما يشمل التيارات السياسية الأخرى عند العرب: الإسلامية والليبرالية والماركسية التي أفرزت ظاهرات كانت أقرب إلى الكوارث السياسية. وهو شيء قد نجده على الصعيد العالمي، فكما أفرزت الحركة الماركسية العالمية قامة فكرية - سياسية عالية مثل أنطونيو غرامشي فإنها أيضاً أفرزت ظواهر مثل بول بوت في كمبوديا، كانت وبالاً على بلدانها وشعوبها وأقرب إلى ظاهرة النفايات السياسية. عام 1952، نشر الفيلسوف الهنغاري جورج لوكاتش الذي عاش طويلاً في ألمانيا، كتاباً بعنوان: «تحطيم العقل»، حاول فيه، عبر آلاف الصفحات، تلمس الجذور الفكرية - الثقافية الألمانية لظاهرة سياسية بربرية متوحشة، مثل هتلر والنازية، أفرزها بلد غوته وبيتهوفن... لماذا لا يفعل العرب ذلك تجاه القذافي وغيره؟ * كاتب سوري