ثورة التقنية فجّرت الخيارات. من الفضائيات إلى الانترنت إلى مواقع التواصل. هذه الأدوات فتحت خيارات الإنسان لتجعله أكثر حريةً في مطالعة أو مشاهدة أو الاستمتاع بالفن والفكر والنص الذي يريد. هناك جيل سابق لم يستوعب هذا التغيير. وهو ما يمكن أن يطلق عليه «الجيل الأبدي» ذلك الذي يطمح إلى ديمومته في كل الذي ينتجه من دون أن يواكب صرعات العصر ومستجدات الزمن. يستوي في هذا أصحاب النتاج الأدبي والفني والفكري. ولنأخذ على ذلك مثلاً بالمسلسلات التي انتقدتها في بدء شهر رمضان؛ ثم مر الشهر وبدأ النقاد يطرحون آراءهم حيالها. بعض الفنانين تقبلوا النقد بصدر رحب لأنهم يفهمون معنى الفن، وبعض آخر رأى أن نقد العمل يقتضي نقد الذات بالضرورة، لهذا يبدون غاضبين يدافعون كل نتاجهم مهما كانت درجة ضعفه بكل شراسة! بعض الأعمال أخذت قيمتها من سياقها التاريخي، وإذا كان العمل استمر سنواتٍ طويلة وسبق في طرحه آنذاك الأعمال التي كانت تضارعه زمنياً فإن هذا لا يعني أن العمل يجب أن يبقى بناءً على سبقه التاريخي. الفن صيغة تجدد، وبالنقد يتم محض العمل الفني، وقراءة العمل الفني أساساً قراءة نقدية. العمل الفني لا يحكم عليه بالصواب والخطأ لأنه ليس فكرة وإنما صيغة؛ الفن لوحة، أو صورة، أو خارطة بصرية سينمائية. كل قراءة لعمل فني مهما كانت إيجابيتها هي قراءة نقدية. الأعمال الفنية التي تطرح من الضروري أن تكون مفتوحة لفضاء النقد، العمل الفني له نمط الألوان. قراءة العمل الفني قراءة ذوقية تعتمد على الخبرات الذاتية والتجارب المتعيّة الحيوية. الفنان حين يخاف من نقد أعماله الفنية أو يضجّ بالصخب حينما ينتقد مسلسله الذي يقدمه أو لوحته أو موسيقاه إنما يغلق ويزهق حاسّته الفنية، ويجعل من تجربته التي قدمها تجربةً مكتملة، وتلك ذروة الانتحار والإفلاس. بقراءة تجارب الممثلين العالميين نطلع على نقدٍ ذاتي فذّ، وإنصاتنا للقاءاتهم ومقابلاتهم نعلم أن «الفن رؤية»، وليس مجرد «تهريج». الفنان الحائز على جائزتي أوسكار «دانيال داي لويس» حين فشل له فيلم من أفلامه شعر بالتعاسة، وغاب عن الأعمال الفنية بضع سنوات، وكان يجلد نفسه-كما تذكر زوجته- من دون هوادة. وهذا هو الطبيعي أن المبدع لا يكتمل إبداعه إلا حين يكون العارف الأول لمواضع ضعفه، ولثغرات إنتاجه. نيتشه كان يقول: «إنني عارفٌ لنفسي جيداً وأجلدها كل يوم دون هوادة». الإبداع أداء نقدي، والفرز أثناء ممارسة العمل الإبداعي، سواء باختيار زاوية الصورة بالنسبة للفوتوغرافي، أو للكلمات بالنسبة للكاتب، أو للنصوص والشخصيات بالنسبة للممثل، كل ذلك الفرز يعبر عن رؤية نقدية ذاتية. الفرز حالة نقدية، والاختيار صيغة تحددها الخبرات التي يكتسبها المبدع من خلال قراءاته وتجاربه وخبرته في الإبداعات الخلابة التي قام بها المنافسون له في المجال الذي اختاره. إنني آسَف على بعض الفنانين الذين أغلقوا رحلتهم مع الفن بأعمالٍ اعتبروها مجرد مصادر دخلٍ من دون إنصاتٍ للنقد المطروح. إن إغلاق الرؤية تجاه الطرح النقدي يعني إغلاق التجربة الفنية، ومن هنا يبدأ الفنان آخذاً طريقه نحو التآكل والجمود. الذين يعتبرون ما يقدمونه ذروة ما يتمنونه، أو خاتمة أعمالهم التي يريدون إنجازها إنما يعبرون عن انتهاء القدرات التي ظنوا أنهم يتمتعون بها. التجربة الفنية الخلاّقة تلك التي تكون كالنهر تتجدد، وحين نكرر أي إبداعٍ ناجح فإن المبدع يطرح عمله الناجح كصيغة مملة. العمل الفني أكبر من الذات، إنه قرين الحسّ والتجربة والخبرة الوجودية. وإذا كان الشاعر العظيم هو ذلك الذي لم يعثر بعد على النص الذي يريد، فكذلك الفنان المتجدد يجب أن لا يعثر وأن لا يستطيع العثور على العمل الذي يريد. الإبداع والفن: رحلة من دون نهاية، ويجب أن تكون بلا نهاية. [email protected]