من المنتظر أن تشهد تونس في 23 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل فاتحة الانتخابات الديموقراطية في بلدان الثورات العربية. فهي التي كانت السباقة في اختبار الثورة ستكون السباقة في اختبار قدرة بلد عربي على إجراء انتخابات حرّة وشفافة، وفق المعايير الدولية. وتختلف توقعات المراقبين بين من يحذّر منذ الآن من سيناريو «جزائري»، في إشارة إلى الانتخابات الجزائرية عام 1991، والمقصود إمكانية تعطيل الانتخابات أو تزييف نتائجها أو الطعن في هذه النتائج، وبين من يبشّر بأول انتخابات حقيقية منذ خمسين سنة باعتبار أن تكافؤ القوى بين الأطراف السياسية سيمنع التلاعب بالنتائج. ثم إن هذه الانتخابات وللمرّة الأولى لن تنظمها الحكومة أو وزارة الداخلية بل تتولى الإشراف عليها لجنة مستقلة. إذا استرجعنا المسار الانتقالي التونسي من بداياته في 14/1/2011 وجدناه مساراً يتسم بالكثير من البراغماتية، ما جعله قادراً على تفادي حالات الانفجار كلما أصبحت مهدّدة. ويظلّ المواطن التونسي نفسه حائراً بين الرغبة في الاستقرار الأمني وتوفير ضرورات العيش اليومي والمحافظة على مؤسسات الدولة وبين تطلعه لمعاقبة الفاسدين من النظام السابق ومحاسبة المنظومة الأمنية والقضائية والإدارية والقطع مع كل ممارسات العهد السابق، ما يجعله يقوم بدور تعديلي لتوجهات الأطراف السياسية الأكثر راديكالية من جهة ومناورات الحكومات المتعاقبة للتهرب من بعض استحقاقات الثورة من جهة أخرى. وقد قطع المسار الانتقالي في تونس أشواطاً متعدّدة، فانتصبت في البداية حكومة الغنوشي الأولى وغالبية أعضائها من الحزب الحاكم سابقاً، مع بعض القيادات البارزة للمعارضة، واتخذت لها هدفاً محاسبة عائلة المخلوع التي كانت تمثّل في السابق دولة داخل الدولة. لكن الرأي العام كان يطالب بأكثر من ذلك، ويعتبر الحزب الحاكم سابقاً جزءاً من منظومة الاستبداد والفساد، فانصاع السيد الغنوشي وشكّل حكومة ثانية تقلّص فيها حضور وزراء من ذلك الحزب إلى عدد محدود من الشخصيات قيل آنذاك إنها ساهمت في عملية التخلص من المخلوع. لكن مرّة أخرى ضغط الشارع باتجاه التخلص من هؤلاء ومن الغنوشي نفسه وفرض حلّ الحزب الحاكم سابقاً، وكما كانت مساندة المنظمة النقابية العمالية حاسمة في نجاح الثورة في تونس، فقد كانت حاسمة أيضاً في إسقاط حكومة الغنوشي الثانية، على رغم أن بعض قيادات هذه المنظمة كانت متورطة أيضاً في الكثير من قضايا العهد السابق. وقد جاء اعتصام «القصبة الثاني» ليسقط الخيار السياسي الذي كان يريد انتخاب رئيس جديد يتولّى الإشراف على مسار الانتقال الديموقراطي، ورأى كثيرون أن هذا الخيار إنما يعيد ما حصل عام 1987 عندما استولى بن علي على السلطة بدعوى الإصلاح واحتفظ بها 23 سنة. ثم جاءت الحكومة الثالثة (الحالية) على أساس تنظيم انتخابات لمجلس تأسيسي يصوغ دستوراً جديداً للبلاد ويهيئ لتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية بمقتضاه، وتزعّم الحكومة رفيق قديم للزعيم بورقيبة عرف بمناوأته لبن علي منذ التسعينات، وكان نظام بن علي قد سخّر وسائل الإعلام وضخّ الملايين في برامج ثقافية وتعليمية مشبوهة للحطّ من بورقيبة ومكانته لدى التونسيين، ما جعل العلاقة بينه وبين البورقيبيين علاقة عدائية. لكن بورقيبة نفسه لم يكن ديموقراطياً وعهده لم يكن مثالاً يحتذى في هذا المجال، وعلى هذا الأساس فإن المواطنين لم ينظروا إلى الحكومة الثالثة على أنها حكومة الشرعية البورقيبية وإنما نظروا إليها على أنها مجرد حكومة موقتة وتكنوقراطية مهمتها الإعداد للانتخابات، فتراجعت هذه الحكومة من خطاب «استعادة هيبة الدولة» إلى خطاب أكثر تواضعاً، وتقلصت تدخلات أعضائها في وسائل الإعلام تأكيداً لطابعها التكنوقراطي، بضغط من الرأي العام، وقبلت بألا تكون المشرفة على تنظيم الانتخابات، بل تتولى ذلك هيئة مستقلة تفرعت عن هيئة مستقلة أخرى هي الهيئة العليا للإصلاح السياسي وتحقيق أهداف الثورة. ولئن كانت عملية انتخاب أعضائها ديموقراطية فإنها عكست موازين القوى السياسية في الهيئة العليا ولم تعكس بالضرورة موازين القوى في المجتمع نفسه، لذلك غاب الإسلاميون عنها. الآن على التيارات الرئيسة أن تكون حذرة ومتوافقة لإنجاح أول انتخابات تونسية وعربية، وتونس ليست مهدّدة اليوم بسيناريو جزائري، فالوضع التونسي والوضع الإقليمي بعامة بعيدان عن ظروف الجزائر عام 1991، وقد كنت في تلك الفترة أتابع متابعة دقيقة الوضع الجزائري وصدرت لي في شأنه عشرات المقالات في صحيفة «الحياة»، ولا أشعر بالتقارب بين المسارين: فهناك ما يكفي من البراغماتية لدى التونسيين لتفادي كل الاحتمالات الصدامية المباشرة. مع ذلك يظل الحذر مطلوباً، وما ينقص المسار الانتخابي في تونس هو الاتفاق بين تياراته الرئيسة على جملة من المبادئ المشتركة، مثل المحافظة على النظام الجمهوري ومكاسب المرأة والملكية الفردية المحصّلة على وجه شرعي واستقلالية القضاء... الخ. وقد طرحنا تخصيص الشهر الجاري (أيلول/سبتمبر) لصوغ «عهد أمان جديد» لتونس يستوحى من تجربة «عهد الأمان» الذي أعلن فيها عام 1857 وكان مقدمة لإعلان دستور 1861 وهو أول دستور سنّ في العالم العربي. واقترحنا أن يعرض «عهد الأمان» الجديد على الاستفتاء في اليوم نفسه الذي ينتخب فيه المواطنون ممثليهم في المجلس التأسيسي المقبل. إن التزام الجميع بحدّ أدنى من المبادئ المشتركة من شأنه أن يخفّف الاحتقان قبل الانتخابات وبعدها. وعلى المجتمع المدني والشخصيات الوطنية والثقافية التي لا تساهم مباشرة في الانتخابات أن تضطلع بدور صمام الأمان في هذه المرحلة الحرجة التي تمرّ بها تونس، فمصير الثورة سيحدّده نجاح الانتخابات أو فشلها.