بعد غياب طويل عن الشاشة الصغيرة أطلّت المطربة فيروز ليل الأحد الفائت لتوجه تحية الى الفنان عاصي الرحباني في ذكرى غيابه الثالثة والعشرين. إطلالة فيروز كانت المفاجأة الأجمل بين المبادرات التي كرّمت الراحل الكبير عشية ذكراه، تلفزيونياً وإذاعياً وصحافياً. فالمطربة الكبيرة التي انقطعت طويلاً عن الظهور على الشاشة الصغيرة كسرت صمتها الجميل وأطلّت تتكلم عن عاصي مثلما كانت تتكلم عنه سابقاً، بحماسة وحبّ ودهشة. لكن إطلالتها هذه بدت أشدّ شفافية ورهبة، وقد استعادت عاصي بذاكرة صافية وقلب نقيّ وسردت بعض الوقائع التي لا بد من كشفها لفهم شخصية هذا الفنان، عن كثب. ومَنْ أجدر من فيروز، رفيقة الدرب والفن، في الكلام عن عاصي، الذي كان مرآتها، كما كانت هي مرآته أو كما كان صوتها النار التي أشعلت عبقرية عاصي والأخوين لاحقاً. ولعل ما قالته، على وجازته، كان بمثابة الشهادة النافذة، الشهادة المكتوبة بحبر الحياة وضوء المغامرة التي عاشتها مع عاصي أولاً ثم مع الأخوين رحباني، وكانت فيها أقنوماً من الأقانيم الثلاثة. تحدثت فيروز بجرأة ولم تخفِ دهشتها التي ما زالت قائمة، بالفنان عاصي وكيف كانت تصغي إليه وكلها ثقة به وبإشاراته. أطلت فيروز بوجه أيقوني يزداد عمقاً ورقة، وكانت تتحدث وتصمت صمتاً صاخباً بالمعاني التي لا تحتاج الى أن تقولها. وعلى طريقتها، قالت، باختصار ما قد يقوله سواها باستفاضة، فالمطربة التي تعرف كيف تقطف اللحظة الشعرية القصوى بصوتها، تعرف جيداً كيف تكثف الكلام ليكون مفيداً جداً. الجميل في الفيلم الوثائقي القصير الذي صوّرته وأخرجته ريما الرحباني جمعه بين عاصي وفيروز وجهاً الى وجه. فقد أطلّ عاصي يتحدث عن فنه وخصائص هذا الفن، وعن صوت فيروز، وكانت ريما اختارت إطلالات أبيها هذه من حوارات تلفزيونية قديمة أجريت معه وبدت كأنها مصوّرة للحين، نظراً الى حداثة آراء عاصي وعصريتها. وبدا عاصي يتكلم بعفوية تامة مدركاً بحدسه أنه يتحدث عن المستقبل وليس عن حاضره آنذاك. وتقاطعت الإطلالتان، فيروز بالألوان، وعاصي بالأسود والأبيض، وخلق تقاطعهما هذا حالاً من الحوار الجميل والمتبادل. وبدا عاصي كأنه يتكلم مع فيروز وفيروز كأنها تسأله أو تجيب عنه في أحيان. وقد اختارت ريما مقاطع من مسرحيات رحبانية مصورة تطل فيها فيروز تمثل وتغنّي، علاوة على صور تنشر ربما للمرة الأولى. ونسجت هذه المقاطع والصور داخل فيلمها الوثائقي وكأنها شهادات بصرية على الفن الرحباني. أما أجمل إطلالات عاصي فتلك التي ظهر فيها يقود الأوكسترا وعيناه شاخصتان الى فيروز، يحدّق فيها، مبتسماً وفرحاً بها فرحاً عظيماً، وكأنه يسمعها للمرة الأولى. هذه الإطلالة الفريدة التي لا يمكن نسيانها كانت خلال حفلة «الأولمبيا الشهيرة» في باريس عام 1979 وقد تولى فيها عاصي قيادة الأوركسترا للمرة الأخيرة. لكنه حينذاك لم يبالِ بالموسيقيين الذين أمامه بل كان مأخوذاً بالمطربة التي كانت كلّ حياته وكلّ فنّه. الفيلم الذي أنجزته ريما كان مفاجأة جميلة وجميلة جداً، فهي أعادت فيروز الى لقاء جمهورها وأعادت الى ذاكرة الجمهور صورة عاصي الذي يستحيل نسيانه أصلاً. وكم كان ضرورياً بثّ هذا الفيلم على بضع شاشات لبنانية في ذكرى عاصي، الذي يسعى بعضهم الى تجاهله أو تناسيه والى إلغائه، لغايات معروفة.