يلاحظ متابع المهرجانات الصيفية اللبنانية، خلال السنوات الأخيرة، تراجعاً في نوعية البرمجة وعدد الحفلات، إضافة إلى تراجع نسبة الحضور. فقبل عام 2006 كان الحصول على بطاقة لحضور حفلة ضمن مهرجانات بعلبك أو بيت الدين أو جبيل، والتي تعتبر الأهم والأعرق في لبنان، صعباً جداً. فما أن تطرح البطاقات في الأسواق حتى تباع خلال ساعات، ولا يبقى منها سوى تلك المخصصة للصفوف الأمامية التي تكون عادة باهظة الثمن. أما الآن، فالجمهور يشكو ارتفاع أسعار البطاقات، المترافق مع ضائقة اقتصادية وأوضاع أمنية غير مستقرة في البلد، إضافة إلى برمجة لا تتوافق بالضرورة مع ذائقة أكثر رواد هذه المهرجانات أو لا ترضيهم. اليوم، وبعدما اختتمت معظم المهرجانات اللبنانية الكبرى، يبدو ضرورياً إجراء قراءة في مسيرة تلك المهرجانات التي يقام بعضها سنوياً منذ عقود. شكاوى من الأسعار والمستوى الفني تتنقل اللبنانية ريما (23 سنة) منذ سنتين تقريباً بين نيويوركولندن، حيث تتابع دراستها العليا في الفنون. لكن ريما وأصدقاءها، الذين يتابعون 70 في المئة من الحفلات الموسيقية وعروض الرقص والمسرح، يشتكون من ارتفاع أسعار البطاقات في لبنان. «كلما أردنا مشاهدة فنان مهم، نحسب ألف حساب لثمن البطاقة، هذا إن وجدنا واحدة بسعر مناسب»، تقول ريما. وتضيف صديقتها غنى، مضيفة الطيران التي تتابع معظم مهرجانات العالم بحكم سفرها الدائم: «أنا شاهدت أهم فرق الجاز في العالم مجاناً، أو بأسعار لا تُذكر، من لندن الى باريس وليفربول وبلجيكا وبرلين وأمستردام وروتردام وغيرها». ويسأل جمال، الطالب في كلية الهندسة: «هل تُنظَّم هذه المهرجانات للأغنياء فقط؟». ويلاحظ رائد، الناشط في جمعيات أهلية غير حكومية: «كل المهرجانات مسجلة في لبنان على أنها مؤسسات ذات منفعة عامة لا تتوخى الربح، لكن معظمها حوّل هذه المهرجانات، التي تهدف في الأصل الى التثقيف وتنمية المناطق الريفية والمدن وتشجيع السياحة فيها، الى مؤسسات تجارية، وبالتالي هي مخالفة للقانون». ويُضيف: «قبل الحرب كانت مهرجانات بعلبك تنظّم حفلات تاريخية لأهم فناني العالم وأشهرهم. أما الآن فصاروا يستسهلون ويستضيفون فنانين من الصفّ الثاني». ويشير رائد الذي يعزف على الغيتار، الى أن المهرجانات في لبنان ما زالت تقليدية، وإذا صحّ التعبير هي سياحية ولم تعد ثقافية كما كانت، والبرمجة لم تتطور لتتماشى مع روح العصر وذائقة الشباب، إلا في قليل من الحفلات التي تنظمها مهرجانات جبيل وأحياناً بيت الدين». ويسأل: «أين هذه المهرجانات من الموسيقى التجريبية، من الفن البديل مثلاً؟». وتقول ريما: «أحياناً يستضيفون فرقاً عادية لا تستحق أن ندفع 50 و60 و80 دولاراً لنشاهدها، فمعظم هذه الحفلات موجودة على الإنترنت!». وترى أن على منظمي المهرجانات، التي يفوق عددها العشرين في لبنان بين محلية ودولية وقروية، أن يبحثوا عن فرق وعروض مُبتكِرة وعلى مستوى عال، من لبنان والعالم. وتعتقد أنه «حان الوقت لتتحوّل هذه المهرجانات من مستضيفة إلى منتِجة لأعمال لبنانية، كونها مؤسسات ذات منفعة عامة وهدفها تثقيفي وتنموي كما يدّعون». غالبية من قابلتهم «الحياة» من رواد هذه المهرجانات انتقدوا ارتفاع الأسعار. فيقول جاسم (23 سنة): «في بعض الحفلات نرى عشرات أو مئات الأماكن فارغة، وأحياناً نلاحظ أن المنظمين ينادون أهالي المنطقة في آخر لحظة، كي يملأوا المدرجات الفارغة، وهؤلاء قد يصدرون ضجة أو يزعجون الآخرين بتصرفاتهم غير اللائقة. فهم غير معنيين بما يقدم، هم هنا ليكملوا العدد فقط». ويسأل: «لماذا لا تفتح الأبواب لهواة هذه الفنون وعشاقها مجاناً؟». ويشرح: «في الكثير من المهرجانات والكرنفالات حول العالم، يدرسون عدد المشاهدين، وإذا تبقّت لديهم بطاقات غير مباعة، يطرحونها بأسعار شبه مجانية على الباب قبل بدء الحفلة مباشرة». وتفيد روان (25 سنة) أن هناك بطاقات مخصّصة لتلامذة المدارس وطلاب الجامعات بأسعار مخفضة في معظم مهرجانات العالم، «فلماذا لا يتّبعون هذه القاعدة في لبنان؟». التكاليف تفوق التوقعات تصغي رئيستا لجنتي مهرجانات بيت الدين، نورا جنبلاط، وجبيل، لطيفة اللقيس، إلى شكاوى الشباب الذين التقتهم «الحياة»، وتبديان تفهّمهما لمعظم الاعتراضات والملاحظات. وتشرح جنبلاط أن على وزارة السياحة اللبنانية دفع ثلث نفقات المهرجان التي بلغت في عام 2011، مليوني دولار، بحسب القانون اللبناني. أما الثلثان الباقيان فيفترض تأمينهما من خلال بطاقات الدخول (33 في المئة) والمعلنين (34 في المئة). لكن الوزارة لا تدفع سوى 20 في المئة من أصل 33، هذا إن دفعت. وتؤكد جنبلاط واللقيس أن «الوزارة لم تدفع المتوجّب عليها منذ عام 2009». وتشرحان أن مؤسستيهما تضطران، منذ ثلاث سنوات، للاستدانة من المصارف، وتحمّل فوائد عالية، الأمر الذي أدخل المهرجانين في نفق الخسارة المتراكمة من سنة الى سنة. «إذا سدّدت الوزارة ثلث النفقات، لا نتكبد أي خسائر»، تقول اللقيس. وتضيف جنبلاط أن الأمر لا ينحصر في تأخر الحكومة في الدفع، بل يتعدى ذلك الى فرض ضرائب تصل إلى 28,5 في المئة، وسترتفع السنة المقبلة إلى 38,5 في المئة، وتتوزع بين الضريبة على القيمة المضافة (10 في المئة) وال «سيسام» التي تفرض ضريبة ثلاثة في المئة على حقوق المؤلفين والموسيقيين، إضافة الى ضريبة البلدية (5 في المئة) ووزارة الثقافة. وتسأل جنبلاط: «إذا كانت الدولة لا تساعدنا، فكيف سنساعد الناس ونعمل على تخفيض أسعار البطاقات وإنتاج أعمال خاصة؟». وتقترح أن تعفي الحكومة المهرجانات من الضرائب، بدل أن تخصّص لها مبلغاً من المال. فالضرائب التي ندفعها تفوق المنحة المخصصة لنا بحسب القانون». لكن هذه المهرجانات ترعاها وتموّلها مؤسسات تجارية ومصرفية ضخمة، ألا تكفي لسدّ النفقات؟ تقول جنبلاط: «هذا ما نحاول الرهان عليه، فمهرجانات بيت الدين يزداد عدد مموليها والمعلنين معها والرعاة سنة بعد سنة، لكن كل ذلك لا يُسدّد 1,928,000 دولار، أي مليوني دولار تقريباً». وتردّ على الشباب المعترضين على ارتفاع أسعار بطاقات الدخول، مقارنة بالمهرجانات الأجنبية: «في أوروبا تدفع البلديات والحكومات 65 في المئة من نفقات المهرجانات، مثل أفينيون الفرنسي». وتشير الى أن الأسعار في لبنان تبدأ ب30 و40 دولاراً وهو مستوى مقبول. بطاقات للطلاب؟ تعتبر مهرجانات جبيل شبابية بامتياز، نظراً إلى برنامجها الذي يغلب عليه طابع الروك والجاز والتكنو والموسيقى البديلة وغيرها من العروض المعاصرة التي تجذب اللبنانيين من الفئة العمرية 15 إلى 30 سنة. لكن لماذا لا تخصص هذه المؤسسة التي استطاعت أن «تجذب حوالى 40 ألف شخص سنوياً الى جبيل منذ عام 2003 وتحدث تغييرات إيجابية على الصُعد السياحي والاقتصادي»، كما تقول اللقيس، أسعاراً منخفضة للطلاب أو حسومات؟ تشرح اللقيس أن كلفة استضافة الفنانين الأجانب عالية جداً، وكل فنان يأتي مع فريق عمل تقني كبير، إضافة الى تكاليف الإضاءة والمسرح والعناصر اللوجستية، مثل تكاليف النقل والتنظيم والاستقبال وغيرها. وتضيف: «مع ذلك نحن ندرس الأسعار كي تناسب الشباب، فهي تبدأ ب 40 دولاراً وتصل إلى 100 دولار». ووعدت اللقيس وجنبلاط بأن تبحثا في فكرة تخفيض أسعار البطاقات للطلاب، لكنهما أكدتا أن العملية ليست سهلة لأنه ليس في لبنان بطاقة موحدة للطلاب، وبالتالي لا يمكن للشركات الخاصة التي تتولى عملية بيع البطاقات التدقيق في ذلك. وما لا يعرفه اللبنانيون أن المهرجانات الأهم في لبنان، وهي بعلبك وبيت الدين وجبيل، تُخصّص ما بين 100 الى 250 بطاقة مجانية لجمعيات خيرية ومياتم ومدارس موسيقى ورقص، كما أن هناك حسماً قد يصل إلى 20 في المئة (في جبيل) للمؤسسات التي تحجز بطاقات لأكثر من 50 شخصاً. لكن، على رغم كل هذه التكاليف الباهظة والضرائب المرتفعة والديون وتخلف الحكومة اللبنانية عن دفع الثلث «المعطل»، قد لا يقتنع جزء كبير من الجمهور اللبناني بالحجج التي تبرر عدم تخفيض أسعار البطاقات أو جعل المهرجانات مجانية. فها هو مهرجان «إهدنيات» في بلدة إهدن (بشمال لبنان) استقبل آلاف اللبنانيين مجاناً في دورته الأولى هذا العام. وهناك تظاهرت ثقافية مجانية لا تقل مستوى عن المهرجانات الصيفية، مثل التي تنظمها جمعية «أشكال ألوان» على مدار السنة.