عندما أصدر الكاتب والصحافي اللبناني أمين معلوف، كتابه الأول الذي وضعه مباشرة في اللغة الفرنسية عند بداية سنوات الثمانين من القرن الفائت وبعد وصوله للإقامة في باريس، لم يكن أحد يعرفه هناك. ومن هنا كان من الطبيعي ان يمرّ ذلك الكتاب مرور الكرام من دون ان يتنبه اليه القراء خارج الحدود الأكاديمية والإستشراقية، وكان الأمر طبيعياً طالما ان الكتاب نفسه كان مجرد نص تاريخي ويكاد يكون من ترجمة معلوف بأكثر مما هو من تأليفه. فالكتاب كان - كما بتنا نعرف الآن - عن «الحروب الصليبية...» انما، وكان هذا هو الجديد فرنسياً على الأقل، من وجهة نظر عربية. لاحقاً سوف يقرأ هذا الكتاب على نطاق واسع ويترجم الى الكثير من اللغات ويعاد طبعه مرات ومرات. اما الفضل في هذا فكان لسلسلة الكتب التالية التي راح يصدرها معلوف بدءاً من روايته التاريخية «ليون الأفريقي» التي إذ صدرت اوائل النصف الثاني من عقد الثمانينات، حققت من فورها نجاحاً مدهشاً... بل غيّرت من مفهوم الأدب الروائي الذي ينطلق من التاريخ الحقيقي كمادة وخلفية لموضوعه. مهما يكن فإن في إمكاننا ان نقول هنا ان أمين معلوف إذ ابتعد في كتابه هذا، عن التاريخ المباشر، ليدخل في صلب التاريخ الروائي بدا من الواضح أنه يلامس القضية نفسها التي كانت في خلفية كتابه الأول: قضية العلاقة بين الشرق والغرب... ولكن هذه المرة ليس عبر التركيز على الصراع بين المنطقتين، وانما عبر التركيز على نطاق اللقاء، وامكانات الحوار... وكل ذلك من خلال شخصية حسن الوزان، المؤلف والعالم والمفكر الشريد، والمنفي الذي عاش في خضم عصر النهضة الأوروبي، بل وشارك في صنعه، بعلمه وفكره اللذين جاء بهما مع أصوله العربية الأندلسية، فكان ذا فعل وتأثير عظيمين في زمنه وعرفه العالم كله بالاسم الذي اشتهر به: ليون الافريقي، وهو الاسم نفسه الذي اعطاه امين معلوف لكتابه، فدخل به صلب الحياة الفرنسية وصار الكتاب ومؤلفه مالئي الدنيا وشاغلي الناس. ولعل من حسن حظ الفكر العربي وحظ أمين معلوف ان يأتي كتابه... «ليون الافريقي» في وقت كانت تطرح من جديد مسألة العلاقات بين الشرق والغرب، على ضوء الأحداث العنيفة والصاخبة التي كانت - ولا تزال - تعيشها هذه العلاقات، ولا سيما في ما يرتبط منها بفرنسا. قد تكون هذه الظروف ساعدت الكتاب، بعض الشيء، وعلى الانتشار والنجاح في الزمن الذي صدر فيه. لكن المهم في الكتاب يقف خارج هذا الإطار: المهم في الكتاب هو أسلوبه الجديد في رواية التاريخ، وفي تحويل التاريخ الى مادة لينة سلسة يمكن قراءتها من دون إرهاق أو تعب.. وهو اسلوب ندر ان عرفته الرواية التاريخية في فرنسا، على رغم ان هذه الرواية كانت قد عرفت قدراً كبيراً من التطور خلال السنوات العشر السابقة على صدور «ليون الأفريقي». أما فضيلة الكتاب فتكمن اساساً في قدرته الكبيرة على المزاوجة بين ما هو تاريخي (وقع في ماضي الزمان بالفعل). وما هو تخييلي (أي صاغته وركّبته موهبة الكاتب)... ولقد كان نجاح الكاتب، في هذا المجال، كبيراً، الى درجة يعجز معها القارئ عن تحديد ما اذا كان الآن يقرأ في هذه الصفحة تاريخاً أم انه يقرأ تخييلاً. حكاية «ليون الافريقي» هي حكاية شخص ومكان: الشخص هو ذلك الفتى الذي كان في الثالثة من عمره حين انتهكت مدينته «غرناطة» وسقطت ملغية الوجود الاسلامي العربي في الأندلس، والمكان هو العالم المتحضر آنذاك: هو غرناطة وفاس، تومبوكتو والقاهرة، تلمسانوروما... هو رقعة البحر الابيض المتوسط، ذلك العالم الذي كان تمازج الأحداث وعمق المتغيرات يعصف به، ما كان من شأنه أن يؤهل عقلاً فذاً، يحمل في طيّاته تاريخاً عريقاً، هو عقل حسن الوزان الذي يحمل تاريخه العربي الاسلامي، يؤهله لأن يعيش تغيّرات العالم ويساهم في تلك التغيّرات. واذا كان سوء حظ حسن الوزان قد واكبه من ناحية: انطلاقاً من انسحاق غرناطة ونفيه منها، وصولاً الى احتراق تومبوكتو وتركه لها، مروراً بالطاعون الذي استباح القاهرة مع وصول صاحبنا اليها... الخ. اذا كان سوء الحظ هذا قد حل بحسن الوزان، أينما حل وارتحل، فإنه في الوقت نفسه لم يمنع ارادته الصلبة وعقله الواعي من ان يقلبا مجرى الكوارث والأحداث. فهذا المنفي، المتشرد، الهارب، المجانب للطاعون... هذا الفتى الذي سيأسره قراصنة البحر ويبيعونه لينتهي به الأمر في بلاد بابا روما «ليون العاشر مديتشى» لن يواصل الحظ السيء الذي غدر به، فالبابا سيتبناه ويعطيه اسمه بعد أن يذهل امام شخصيته، ثم يعطيه مكانة كبرى ويعيّنه معلماً للغة العربية في الفاتيكان. في ذلك الحين كانت اللغة العربية تعني الحضارة العربية كلها... كانت تعني ان من يدرس لغة العرب، إنما ينقل الى لغة قومه وفكرهم تراث مئات السنين من المعارف الفلسفية والعلمية والأدبية والجغرافية والتاريخية... وبهذا، تمكّن حسن الوزان من أن يساهم، وإن كان تحت اسم «ليون الافريقي»، في بعث نهضة فكرية كبيرة في تلك الديار... ولو أن كل ما تبقى لنا من آثاره المكتوبة لا يعدو كتابه الكبير «وصف افريقيا» الذي كتبه خلال وجوده في روما فاعتبر مرجعاً اساسياً، بل المرجع الوحيد لسنوات طويلة، طويلة، في جغرافية افريقيا وتاريخها... لكن هذا الحظ السعيد الذي واتى حسن الوزان على يد البابا ليون العاشر، لم يدم، كما يبدو طويلاً، إذ سرعان ما اندفع اللوثريون ينهبون روما ويدمّرونها لحساب الملك شارلكان، عدو البابا اللدود... وفي ذلك الخضم ضاعت آثار حسن الوزان، ولم يعد التاريخ قادراً على أن يقدم لنا عنه ولو حداً أدنى من المعلومات. صحيح أن منطلق كتابة أمين معلوف عن «ليون الافريقي» كان افتتان كاتبنا اللبناني المعاصر، بسيرة وعبقرية ذلك السلف العربي الكبير، ودهشته أمام غرابة تقلبات حياته ومغامراته، لكن الدافع الأكثر حسماً كان احساس أمين معلوف ان في إمكانه – وفي هذه الآونة العصيبة علينا بالذات – أن يستخدم حكاية ليون / حسن الوزان، مؤشراً الى أن في إمكان العرب، جماعات ولكن أفراداً ايضاً، ان يكونوا ذوي اثر في نهضة العالم، في الماضي، ولكن في الحاضر ايضاً... وان في امكان حكاية ليون هذه ان تقدم الى العالم كله درساً في التسامح الانساني وفي الحوار بين حملة الاديان السماوية. فكتاب «ليون الافريقي» هو – في الدرجة الأولى – كتاب حوار وسلام وتسامح. «هكذا فقط يمكنني ان أفهم كتابي، وأريد أن يفهمه الآخرون» قال أمين معلوف يومها مضيفاً: «إن حكاية حسن الوزان، إنما هي مثال حي وحقيقي على أن لنا نحن العرب، انطلاقاً من حضارتنا الاسلامية العريقة، دوراً كبيراً نلعبه في مسيرة الحضارة العالمية ونهضة الفكر والعلوم... ولا بد لنا – وهو ما يفعله الكتاب على أي حال – من أن نذكّر العالم كله بأن الدين الاسلامي والحضارة العربية، هما في الدرجة الأولى عوامل انفتاح واخاء ومحبة... وانه عندما يكون المسلمون مسلمين، والعرب عرباً، يكون من أسهل الأمور على العالم الوصول الى حوار ولقاء حقيقيين معهم». غير أن هذا لا يعني ان الكتاب كتاب سياسي أولاً وأخيراً، وعن هذا قال أمين معلوف: «اذا كان قد سرّني ان النقاد والقراء في فرنسا استقبلوا الكتاب مدركين مغزاه، ومغزى ما أدعو اليه فيه، فإن الذي سرّني أكثر هو أن هؤلاء الناس ذاتهم، أدركوا ان العامل الاساس في الكتاب هو بعده الأدبي الأسلوب. صحيح انني ذو رسالة، لكنني كاتب بالدرجة الأولى، اشتغل على الأسلوب واللغة». اما حين سئل الكاتب بمناسبة الحديث عن اللغة: لماذا بالفرنسية وليس بالعربية؟ أجاب: «انني أتمنى ان اكتب قريباً، مباشرة بالعربية وللقارئ العربي. لكني اعتقد ان هناك كثيراً من الامور التي علينا معالجتها ليفهمنا الآخرون... هناك سبل لمخاطبة العالم، لا بد لنا نحن ان نخوضها بأنفسنا، من دون أن ننتظر من يخوضها عنا: فإذا قيّض بعد ذلك لما نكتبه ان يصل الى قارئنا العربي فالفائدة عند ذلك تكون مزدوجة». ومهما يكن من الأمر فإننا نعرف ان معلوف لم يكتب بالعربية بعد ذلك. بل واصل اصدار كتبه ورواياته تباعاً بالفرنسية وابرزها «سمرقند» و «حدائق النور» و «القرن التالي بعد بياتريس» و «جذور» و «الهويات القاتلة»، وبخاصة «صخرة طانيوس» الرواية التي جعلته يفوز بأرفع جائزة ادبية في فرنسا: الغونكور، ما مهّد بالطبع لانتخابه أخيراً عضواً في «الأكاديمية الفرنسية» كثاني عضو عربي فيها بعد الكاتبة الجزائرية آسيا جبار. [email protected]