مسرحية ظهور سيف الإسلام القذافي امام عدسات المصورين في باب العزيزية ليل اول من امس، قد يكررها والده العقيد أو أحد أشقائه، وقد تحصل أيضاً مواجهات دموية في طرابلس او غيرها من البؤر، حيث لم تستسلم بعد كتائب القذافي للثوار. لكن ليبيا دخلت في مرحلة ما بعد القذافي على نحو لا عودة عنه، سواء في السيطرة الميدانية للثوار مدعومةً من الحلف الاطلسي، او بالاعتراف الدولي الكامل بالمجلس الوطني الانتقالي. لقد خسر القذافي المواجهة العسكرية داخل ليبيا والمعركة الديبلوماسية خارجها، ولن يبقى منه إلاّ قصص تبديده بلايين الدولارات على معارك وهمية في العالم أجمع وحكايات النهب المنظم لثروات بلده والفساد المعمم بين افراد حاشيته، وذكرى طرائفه وتحسر الصحافيين على مسرحياته وتهريجه في كل مرة يرى فيها عدسة تصوير، خصوصاً في المؤتمرات التي يحضرها وزياراته الخارجية مع خيمته وجماله. لقد انتهى عصر القذافي، بعدما عمل خلال أكثر من أربعين عاماً، وبدأب لا نظير له، على إفراغ ليبيا من كل ما يمتّ الى الدولة والمؤسسات بصلة، ومن كل طاقاتها البشرية، مقدماً الرشاوى النفطية والاستثمارية لرأسمالية متغولة، غربية وشرقية، لا تحسب أيَّ حساب لحقوق الانسان، ولا يهمها إلا الربح، فاستغل القذافي، بفطرته البدوية، هذا التغول ليمعن في تبديد ثروات ليبيا وتشريد نخبها ويفرض حكماً استبدادياً قلّ نظيره. وحتى شهور قليلة قبل اندلاع الحركة الاحتجاجية الشعبية في ليبيا، كان القذافي لا يزال مقصداً لرؤساء الدول من الغرب والشرق من أجل الحصول على العقود الباهظة، حتى وإن كان ذلك على حساب حرية الشعب الليبي وكرامته. وأغلب الظن ان المجلس الوطني الانتقالي سيكون مقصداً مماثلاً، وسيتوافد المسؤولون والرؤساء الأجانب أصحاب خطط إعادة الإعمار وخرائط طرق التنمية، مراهنين على الحاجة الماسة لليبيا الثرية بنفطها لكل مشاريع البنية التحتية. وهذا ما يشكل تحدياً كبيراً للحكام الجدد في ليبيا، والذين سيواجهون اولاً مشكلة اولويات إعادة البناء، وثانياً عدم السقوط في استسهال العروض والعقود. وقد يحتاج هؤلاء الحكام إلى اداريي الحكم السابق في تسيير الشؤون العامة، وفي اعادة بناء اجهزة الدولة، وهنا سيواجهون تحدياً آخر، عبر كيفية التوفيق في بناء الدولة الحديثة ومؤسساتها والتعامل مع بقايا العهد البائد. واذا كانت المعركة العسكرية ضد قوات القذافي باتت شبه محسومة، فإن معركة سياسية لا تقل تعقيداً وخطورة ستفرض نفسها في مواجهة جيش المنتفعين من الحكم السابق ومن العاملين في أجهزته وارتبطت مصائرهم به، ومن ثم كيفية استيعابهم في الحكم الجديد. الا ان التحدي الأهم يبقى في طبيعة الحكم المقبل، فالقوى التي اشتركت في إسقاط النظام القديم مختلفة الآراء والأيديولوجيات، من اقصى الليبرالية الى اقصى التشدد الاصولي، وبالتأكيد هناك تعارضات اساسية بين تصوراتها للمستقبل. لقد آن للشعب الليبي بعد اكثر من اربعة عقود عجاف، ان ينعم بالسلام والتمتع بحرياته وحياة كريمة. فهل سيحسم تصور المستقبل عبر خريطة الطريق التي وضعها المجلس الانتقالي والتي ستفضي الى انتخابات وخيارات ديموقراطية وتعددية، أم ان الثورة الليبية، مثلها مثل الثورات التي سبقتها، ستأكل ابناءها، وتتحول المواجهة بين ثوار اليوم وكتائب القذافي الى مواجهة بين هؤلاء الثوار انفسهم؟ ليرسو الحكم في مكان بعيد عن الأهداف التي وضعها. على الاقل، أظهر الثوار، باستثناء حوادث قليلة غامضة منها اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس، قدراً واضحاً من النضج، سواء في قيادة العمليات العسكرية او الطرح السياسي، وهذا ما يعزز اتجاه التحول السلمي الى حكم مدني ديموقراطي تعددي يعلن الجميع العمل من اجله.