هل سبق لأحدكم أن طرح على نفسه هذا السؤال الساذج: لماذا يحتوي الشماغ الذي يعتمره أكثر الرجال على نقط حمراء تبدو عند التدقيق فيها كما لو كانت شبكة صيد أسماك؟ ثم، لماذا هي حمراء وليست زرقاء أو خضراء أو صفراء مثلاً؟ ثم، لماذا ترتدي شريحة أخرى من الناس، مثلي أنا، غتراً بيضاء اللون لا نقش فيها ولا حبيبات حمراء؟ في الحقيقة، أنا لم أرهق نفسي يوماً في التفكير في هذه المسألة، وأظن أنكم لا تختلفون عني. غير أني منذ أيام قليلة كنت أقرأ في كتاب «ظواهر حضارية وجمالية من التاريخ القديم» للباحث التاريخي فوزي رشيد، فوجدت إجابات لأسئلة من هذا الطراز. قد تتساءل: أي علاقة بين التاريخ القديم والشماغ والغترة؟ ربما ستتملكك الدهشة عندما تكتشف أن كثير من السلوكيات التي نمارسها، والطقوس والمعتقدات التي نؤمن بها، والأزياء التي نرتديها، والرقصات التي نؤديها، تحمل في أحشائها بذوراً من الماضي السحيق. إن أولى الاستنتاجات التي ستخرج منها عندما تتجول في أروقة التاريخ أن الماضي ما زال حياً يسافر فينا من دون أن نعي ذلك. أظنك الآن متشوقاً لمعرفة حكاية الشماغ أو الغترة التي تضعها فوق رأسك وسر علاقتها بالأزمنة المنسية! حسناً، يخبرنا فوزي رشيد بأن الإنسان السومري الذي سكن جنوب العراق، حيث تنتشر الأهوار وصيد الأسماك، كان يصور بعض آلهته وهي تصطاد أعداءها بشبكة صيد كما يفعل هو عندما يرمي بشباكه في الماء. ونظراً لأهمية الصيد في تلك المناطق زيّن الحكام السومريون عمائمهم بنقوش تمثل شبكة الصيد. وعندما ورث الأكاديون القادمون من جزيرة العرب البلاد السومرية، استبدل ملكهم نارام سين العمامة السومرية بخوذة مزينة بقرني الثور (رمز إله الخصب الرافديني تموز) لكي يقذف الرعب في نفوس الأعداء. وعلى ما يبدو، فإن الإسكندر المقدوني عندما اجتاح المشرق بعدها بقرون مديدة استعار الخوذة المقرنة، ومنه هاجرت إلى أوروبا، فتلقفها مقاتلو الفايكنغ الأشداء بعد أن تم تفريغها من مضامينها الألوهية. وبعد زمن من زوال السيادتين السومرية والأكادية، أراد المصلحون توثيق الوشائج القومية بين الجماعتين والمؤالفة بينهما، فخرجوا بغطاء رأس مشترك مكون من الكوفية والعقال. الكوفية ترمز إلى الزي السومري والعقال يرمز إلى الزي الأكادي. ويؤكد الباحث أن العقال ما هو إلا تطوير لفكرة قرني الثور بدلالة أن نهايات العقال تدبب تدريجياً عند نهاياتها كي تشابه قرني الثور. ويضيف الباحث «أن بعض أنواع العقالات تتدلى منها ذؤابة (العقال القطري مثلاً) تشبه ذيل الثور». ولكن لماذا تتدلى من العقال القطري ذؤابتان وليست واحدة؟ يجيب الباحث على هذا السؤال بالقول أن ازدواج الذؤابة يعود إلى ظاهرة التناظر، وهي من أقدم القيم الجمالية التي عرفها الإنسان. ويكمل الباحث مضيفاً «أن المجاميع البشرية خارج سومر تبنت هذا الزي من دون أن تتنبه إلى جذوره الدينية وأصوله الملكية. وبما أن جيران سومر لا تعنيهم المعتقدات السومرية، فقد طرحوا السواد الذي اتخذه السومريون لوناً لنقش الكوفية (رمزاً لانقطاع المطر بسبب لاحتجاز الإله تموز في العالم السفلي لمدة ستة أشهر)، واختاروا عوضاً عنه اللون الأحمر لكونه يرمز إلى الحياة والموت في آن واحد، فكانت تلك هي ولادة الشماغ! وهناك مناطق أخرى تخلصت من نقش الكوفية الذي يشبه شبكة الصيد لأن أهلها ببساطة لا يمتهنون صيد السمك، كما تركوا اللون الأحمر بسبب دلالته الرمزية على الموت، ولهذا ظهرت لنا الغترة البيضاء»! ليس الهدف من هذا «الحفر التاريخي» استكناه أصول الشماغ والغترة بقدر ما هو إيضاح أن هناك أشياء من حولنا اليوم لها ارتدادات تاريخية ضاربة في القدم. إن من يقرأ هذا الكتاب وغيره من الكتب التي تسبر أغوار التاريخ الإنساني وتراثه الروحاني سيكتشف بطلان الدعاوى التي تتعامل بفوقية مع الفترة السابقة للإسلام وتختزلها في كلمات لا تتجاوز تخوم التكفير والظلام والجهالة. عندما فرغت من قراءة الكتاب تذكرت مشاريع أسلمة مناشط الحياة التي رافقت صعود المد الصحوي. أتصور أن القائمين على أسلمة المجتمع بحاجة إلى الانفتاح على تراث الإنسان القديم من أجل تتبع واستئصال أي امتدادات تاريخية ذات ملامح وثنية قد تتسرب إلى المجتمع. ترى لو فعلنا هذا.. فهل سنقول وداعاً للشماغ والغترة؟! [email protected]