حسناً فعل القاضي أحمد رفعت عندما قرر أمس وقف المسلسل التلفزيوني لمحاكمة الرئيس السابق حسني مبارك. ليس فقط «حفاظاً على الصالح العام»، بل فوق ذلك حفاظاً على صدقية عمل محكمة جنايات القاهرة، بعد أن بات مشهد مبارك محمولاً إلى المحكمة في سيارة إسعاف وهو ممدد على سرير المرض مشهداً مثيراً للشفقة على الرئيس المتهم، بدل أن يكون مثيراً للتعاطف مع الضحايا الذين سقطوا في الاشتباكات بين قوات الأمن والثوار المتظاهرين. هناك فارق بين تطبيق العدالة وممارسة الانتقام، وبين الحكم الذي يصدره القضاء لتحقيق العدل و»الأحكام» التي يصدرها العوام بغرض التشفي. والطريقة التي تتم بها محاكمة مبارك تفتح الباب لمناقشة المسافة التي أخذت تضيق أمام محكمة جنايات القاهرة بين تطبيق العدالة وممارسة الانتقام. ذلك أن تطبيق العدالة لا يحتاج إلى جلب مريض إلى المحكمة، ولو كان «مريضاً بالوهم»، كما كان مريض موليير في مسرحيته الشهيرة، بل يمكن محاكمته غيابياً، كما يحصل في الكثير من محاكم العالم في حالات مماثلة. منذ سقوط مبارك والبدء في ترتيب إجراءات محاكمته قيل إن المجلس العسكري الحاكم يتعرض لضغوط من الثورة من اجل جلب مبارك وراء قضبان المحكمة مقيّداً أمام الكاميرات، لأن «دم الثوار» الذين سقطوا في ميدان التحرير يطالب بذلك. قيل أيضاً إن الحديث عن تدهور صحة مبارك هو مجرد مزاعم، الهدف منها إنقاذه من قفص المحكمة وبالتالي من الإدانة. ولا شك في أن القضاء المصري اثبت جديته واستقلاليته عندما سار في إجراءات محاكمة الرئيس المخلوع. وبات مطلوباً منه اليوم أن يثبت مهنيته وحياده، بعيداً عن أهواء المجلس العسكري الحاكم، وكذلك عن مطالبات الشارع الغاضب. ذلك أن المجلس العسكري ليس منزّهاً عن الأهواء. وقد تردد في الصحف المصرية المحسوبة على الثورة، منذ بداية التحقيقات مع الرئيس السابق، أن «صفقة» كانت تقوم بينه وبين المشير حسين طنطاوي، وزير دفاعه لعشرين عاماً، تقضي بتخلي الرئيس عن السلطة مقابل تجنيبه المحاكمة. ثم ظهر أن هذه «الصفقة»، إذا صحّ وجودها، سوف تقضي على كل الآمال السياسية التي يمكن أن تراود أعضاء المجلس العسكري، وهم من صنف البشر في آخر الأمر، وليسوا من الملائكة، ما يعني أن الطموحات السياسية ليست غريبة عنهم، في بلد جاء رؤساؤه الأربعة منذ ثورة يوليو 1952 من المؤسسة العسكرية. لم يعد سراً أن المجلس العسكري في مصر لا يتصرف كسلطة انتقالية بقدر ما يؤسس لمرحلة يكون فيها هو الحاكم الفعلي، ولو من خلف ستار الوجه المدني الذي ستحمله الانتخابات الرئاسية إلى قصر عابدين، هذا إذا جرت. وقد أثارت إحالة الناشطة أسماء محفوظ إلى القضاء العسكري بتهمة «إهانة» المجلس العسكري ردود فعل غاضبة من المحتجين على محاكمة مدنيين أمام المحاكم العسكرية، في الوقت الذي يحاكَم المتهمون بإعطاء الأوامر بإطلاق النار على الثوار، أمام محكمة مدنية، كما هي الحال مع الرئيس مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي. ذكّرني مشهد حسني مبارك ممدداً على سريره في محكمة القاهرة بذلك المشهد الذي تابعنا فيه جون ديميانيوك ابن الواحدة والتسعين وهو محمول على كرسيه النقال بين محاكم إسرائيل والولايات المتحدة وألمانيا بتهمة قتل 28 ألف يهودي في المعتقلات النازية في الحرب العالمية الثانية، إلى أن أصدرت محكمة في ميونيخ في أيار (مايو) الماضي حكماً بإدانته، ثم قررت الإفراج عنه بسبب سنّه. أمام تلك المحاكمة كنا نتساءل: ألا يوجد مكان للرحمة في قلوب هؤلاء الذين يدعون إلى الانتقام لجرائم النازية؟ لا ندعو إلى ثقافة غاندي أو نلسون مانديلا في ربوعنا، لأننا نعلم أنها غريبة عن ثقافتنا. لكننا نأمل بأن لا نتذكر مشهد ديميانيوك مرة أخرى ونحن نتابع محاكمة حسني مبارك.