كأنما بكبسة زر سحرية تدفقت معاً التصريحات الدولية والعربية المنددة بالسلوك الوحشي للنظام السوري في مواجهة الانتفاضة الشعبية السلمية. لا أريد بهذا المدخل تأجيج الهوس بالمؤامرة الساكنة فينا منذ قيام كياناتنا الحديثة. لكنه أمر لافت حقاً أن تتخلى جميع الدول العربية وغير العربية تقريباً، في وقت واحد، عن صمتها المديد أمام ما جرى ويجري في سورية منذ خمسة أشهر من إراقة لدماء السوريين واستباحة لمدنهم وبلداتهم وحملات اعتقال واسعة شملت عشرات الألوف وموجات من النزوح إلى البلدان المجاورة شملت أعداداً مماثلة. من السذاجة السياسية رد صحوة الضمير المفاجئة والمتأخرة هذه إلى استجابة تلك الدول لشعار «صمتكم يقتلنا» الذي رفعه المتظاهرون السوريون على امتداد الخريطة السورية قبل أسبوع من صدور بيان مجلس الأمن بصدد إدانة الانتهاكات السورية لحقوق الإنسان. ففي العلاقات الدولية قلما تلعب الأخلاق دوراً. الدول بلا ضمير من حيث المبدأ، وإن كانت تلجأ إلى إخفاء مصالحها الحقيقية تحت ستار قيم وشعارات «إنسانية». ومع ترحيبنا بكل ما صدر من إدانات عربية ودولية، على تأخرها، لا بد من محاولة قراءة مصالح الدول وما قد تقوم به من «استثمارات» في الأزمة الداخلية السورية. ولكن لا بد، قبل ذلك، من تثبيت بعض المعطيات الأساسية في ما يتصل بمفاهيم السياسة الداخلية والخارجية كما مارسها النظام السوري طوال حكمه في عهدي الأب والوريث. تعني «السياسة» في لغة النظام السوري السياسية، تلك المتعلقة حصراً بالسياسة الخارجية والعلاقات الدولية. أما «الداخل» فينضوي في إطار ما يسمى باللغة إياها «ميدان الخدمات» أي أمور الإدارة بالمعنى المتعارف عليه والذي تختص به «الحكومة». وهذه مجموعة من الموظفين التنفيذيين لخطط وأوامر اعتباطية تأتيهم من خارجهم. هذا التقسيم شفاف ومطابق حقاً بالنظر إلى واحدية الفاعل السياسي في الإطار الوطني. فالحكم فردي (رئاسي) ومؤبد ووراثي، من أدواته الإيديولوجيا البعثية المطعمة بعبادة الفرد (الأسدية) وشبكة معقدة من الأجهزة الأمنية التي هي «القائد الفعلي للدولة والمجتمع»، وليس حزب البعث الذي قضى عملياً منذ انقلاب حافظ الأسد على رفاقه الشباطيين في خريف 1970. فليس في سورية قوى سياسية معترف بشرعيتها يمكن ممارسة السياسة معها. بل مجموعات من السكان لهم «مطالب معاشية» تتدبرها الحكومة إذا رأت «القيادة السياسية» أنها محقة. والقيادة السياسية هذه تعني الرئيس حصراً، ولا يجوز إضافة رئيس الوزراء أو الوزراء أو نواب الرئيس إلى «الطبقة السياسية» الغائبة في هذا النظام. أما السياسة بالإطلاق فهي السياسة الخارجية ويرسمها وينفذها الرئيس شخصياً بالاستعانة بعدد من الأدوات أهمها الأجهزة الأمنية قبل وزارة الخارجية. فوزير الخارجية في هذا النظام لا يعدو كونه حامل رسائل مكتوبة له سلفاً، في حين أن «العلاقات مع الدول» – دول الجوار خاصة – ترسم وتنفذ من قبل قادة الأجهزة الأمنية بسبب العقيدة غير المعلنة في العلاقات مع الدول الأخرى والقائمة على مبدأ لي الذراع من طريق الضغط بوسائل غير ديبلوماسية. نحن نعرف مثلاً أن سياسة النظام مع إسرائيل قامت على مبدأ استخدام أدوات غير سورية لتحقيق أهداف سياسية، منها المقاومة الفلسطينية بجناحيها الوطني والإسلامي، و «حزب الله» وبعض القوى اللبنانية الأخرى. ويمكن التذكير بهذا الصدد بالعبارة الشهيرة التي طالما أثارت سخرية المعارضين للنظام السوري كلما وقع اعتداء إسرائيلي على الأراضي السورية، عنيت بها «حق الرد في الزمان والمكان المناسبين». الحق أن النظام كان يفي دائماً بهذا الوعيد، ولكن ليس من خلال ضربات عسكرية يقوم بها الجيش السوري، بل من خلال أدواته غير السورية، وبخاصة المنظمات الفلسطينية الصغيرة التي لم يسمع بها أحد، ويتم توجيهها من قبل الأجهزة. أما العلاقات السورية – التركية فقد قامت على اللعب بورقة حزب العمال الكردستاني إلى أن جاء إنذار ديميريل الشهير في 1998، وتم التوقيع على اتفاقية أضنة الأمنية – السياسية وتغير مجرى العلاقات بين البلدين بعد ذلك. ولنتذكر أن من وقّع هذه الاتفاقية عن الجانب السوري هو اللواء عدنان بدر حسن رئيس فرع الأمن السياسي آنذاك، وليس وزير الداخلية أو وزير الخارجية. ونلاحظ اليوم عودة جديدة إلى اللعب بهذه الورقة بسبب السياسة التركية في الأزمة الراهنة. بالمثل قامت العلاقات السورية – العراقية، قديمها وحديثها، على التعامل الاستخباراتي أكثر مما على المستوى السياسي. ومن النافل التذكير أخيراً بالعلاقات مع لبنان التي أوكل بها ضباط في المخابرات العسكرية كغازي كنعان وخليفته رستم غزالي. أما الولاياتالمتحدة والدول الغربية فقد امتزج في التعاطي معها المستويان السياسي والمخابراتي. ويمكن التذكير في هذا الصدد ببعض العمليات الإرهابية التي وقعت في أوروبا أو «التسلل عبر الحدود مع العراق» أو تنظيم «تظاهرات عفوية» ضد بعض السفارات الغربية في دمشق (الأميركية والدنماركية) وقام خلالها المتظاهرون بتخريب مبنى السفارتين. ولا ننسى الدور السوري في «تحرير» الرهائن الغربيين في لبنان والعراق على مدى عقود. هذه هي أدوات السياسة الخارجية في سورية، أو «السياسة» باختصار والتي ترسمها «القيادة السياسية» وحلقة المستشارين الذين هم بالمصادفة قادة أجهزة الاستخبارات. هذه الوضعية التي أسسها حافظ الأسد طوال عقود حكمه، هي ما وصفها باتريك سيل في كتابه «الصراع على الشرق الأوسط»، وكان بمثابة التوثيق للمطابقة بين سورية وحافظ الأسد. النظام الأسدي الذي نقل سورية من حالة الملعب لصراعات الآخرين إلى لاعب في الجوار الإقليمي، وإن كان دوره وظيفياً، دخل منذ 2005 طور انحطاطه. وقد أشار ياسين الحاج صالح حينها إلى أن سورية تمر بمرحلة انتقالية من «الصراع على الشرق الأوسط» إلى العودة إلى مرحلة «الصراع على سورية». وإذا كانت حرب تموز (يوليو) في 2006، أعطت النظام جرعة انتعاش لدوره الوظيفي القديم، فقد وفر التعامل الدموي له مع الانتفاضة السلمية للشعب السوري في 2011، المناخ الملائم لعودة الصراع على سورية. فماذا يريد «الآخرون» من سورية ما بعد الأسدية؟ * كاتب سوري