يقدم النظام في سورية مشهداً سوريالياً لجرعات الإصلاح السياسي، فالخطوات الإصلاحية والقرارات كالعفو العام وقوانين الأحزاب والانتخابات لا تصدر إلا على وقع اجتياحات المدن والقرى وسقوط شهداء من المدنيين. والتزامن بين الإعلان عن الإصلاح والقمع الدموي للمواطنين ينطلق من قناعة مُمنهجة تقضي بفرض هيبة للنظام اعتمدها منذ البداية ولا تسمح بتقديمه للتنازلات تحت الضغط، أضف إلى أنها تعبير عن عملية نفسية معقدة تظهر حجم الجهد المعنوي الذي يُبذل لمجرد الإعلان عن إصلاح ما. فبعد إلغاء قانون الطوارئ دخلت دبابات الجيش مدينة درعا وتبعتها المدن الأخرى وعند الإعلان عن الحوارالوطني كانت جسر الشغور ضحية لهذا الإعلان ومؤخراً «أهدي» الشعب السوري قانوني الانتخابات والأحزاب في مقابل اجتياح مدينة حماة. ومهما تضمنت هذه القرارات الإصلاحية من وعود فالواضح أن الإصلاح في سورية هو عملية تخضع لكل ما هو غريب ومتناقض ولا شعوري وتهدف إلى إطلاق فقاقيع دخانية تعمي بصيرة المبهورين بإمكانات بشار الأسد الإصلاحية لكنها لا تلج إلى جوهر المسألة. والحال فالفصام الذي يطبع انزلاقات النظام وتصرفاته يؤشر إلى انعدام القدرة على الإصلاح الحقيقي الذي يُرضي الشعب. لقد نجح النظام في وضع الشعب كله في مواجهته جراء قصوره عن مواكبة الحركة المطلبية أو استيعابها على الأقل، وتفشل عملياته الأمنية في جني أي مردود أمني أو سياسي أو حتى نفسي يتعلق بإخافة المواطنين. فحيث لم يُحاسَب أي مسؤول لحد الآن عن عملية قتل واحدة حصلت فإن صدقية النظام تبقى معدومة. منذ عام تقريباً كانت السلطات السورية تتحدث عن عملية تحوّل استراتيجي تقوم بها سورية وتهدف إلى ربط البحار الخمسة في شبكة من المصالح وإنشاء شبكات لنقل الغاز والكهرباء وتطوير المواصلات ولعب دور اقتصادي كبير يضم إليها كلاً من تركيا، الأردن، لبنان، إيران، والعراق وبعض الخليج وصولاً إلى الدول المحيطة ببحري قزوين والأسود، وشكلت هذه الرؤيا مضموناً لخطابات وزيارات ورؤى ودراسات واستطلاعات أظهرت سورية بأنها تدخل إلى العصر الحديث من زاوية القادر على ترجمة ميزاته الجيوسياسية إلى وقائع وامتيازات عصرية. والإصلاح الإقتصادي في سورية اقترب من اقتصاد السوق لكنه لم يتزامن مع تعديلات هيكلية تواكبه وتطاول النظام في شكل عام، حيث كان لا بد لذلك أن يترافق تلقائياً مع إصلاحات سياسية تخدم الرؤى الإقتصادية بالدرجة الأولى ومن دون أن تكون موضع مطالبة شعبية. فربيع سورية كان حاجة للنظام قبل أن يكون حاجة لغيره ولو حصل الإصلاح في حينه لكان بشار الأسد نصّب نفسه أتاتورك سورية الحديثة، إنما كغيره من النماذج البوليسية التي سبقته، بقي النظام أسير خوفه من الناس وفوّت على نفسه فرصة قيادة الإصلاح. فالتناقض بين الوجهتين الاقتصادية والسياسية للنظام شكلت الأساس الذي فجر الأحداث حيث لم يكن النموذج الصيني، فيما إذا جازت المقارنة، لينجح في سورية. فسورية التي انساق نظامها وراء المصلحة الإيرانية أخفت سياقاً من الاعتراض الداخلي كان يمكن تحاشيه لو وقفت المصلحة الوطنية والقومية وراء سياساته، وعمى الألوان الذي أصيب به النظام أودى إلى سياسات خارجية ضيقة الأفق طبّقها في لبنان والعراق بطريقة أضرّت بمصالحه على المدى البعيد، حيث انزوت خياراته في مساحات تشغلها عادةً الأحزاب والفئات العصبوية وهي لا تميّز سلوكيات الدول، فللدولة بشكل عام قواعد عمل وحدود لا تتوقف على التعاطي مع الأطراف الخارجية بعقلية البلطجة والإخضاع أو الإلغاء الذي يبيّت وراؤه تراكمات شخصية. لقد تسنى للسوريين أن يكتشفوا كلفة «الممانعة» عليهم، وهي كلفة تُحدّدها منظومة لا تبدأ في بلادهم ولا تنتهي عندها، والواقع أن المكتسبات التي تحققت في سياق الثورة التي تأخذ مكانها منذ أشهر أدت إلى زعزعة ركائز المنظومة كلها. لذلك استدعى الأمر أن يلتحق لبنان بمصلحة النظام السوري مُساقاً بالتطبيع ذات التوجه الأمني وهو المصاب ب «انفلونزا الممانعة» منذ نشأتها. وحيث أن النظام في سورية لم يوفّر أتباعه اللبنانيين من إعلاميين وسياسيين وفنانين إلاّ وألحقهم ب «نهضته» الإعلامية، أضف إلى تكبير حجم تمثيل لبنان في مجلس الأمن ليصل إلى حد امتلاكه «فيتو» عربياً مُستحدثاً من خلال شذوذه عن الاجماع الدولي، فإن المهمة الملقاة على عاتق السوريين تتضاعف لأنهم يقفون في مواجهة منظومة تتخطى حدود دولتهم ونظامها أضف إلى ذلك تباطؤ الحركة الدولية في مواكبتهم في شكل عام. ثمة تناقض يشوب المشهد العام في سورية فالحل الأمني الذي يتبعه النظام لم يترك أمامه خيارات أخرى لأنه متى توقف تضاعفت أعداد المتظاهرين، وفيما إذا استمر تصاعد الموقف الدولي وتنامت المعارضة وضَعُف النظام. والغريب هو أن الرئيس الذي حوَت معظم خطاباته مطولات وشروحات في علم الاجتماع تلا بعضها أمام القمم العربية وبعضها الآخر أمام مؤتمرات البعث ومجلس الشعب السوري يعجز اليوم عن تقديم خطاب مقنع يشرح فيه لأهالي الضحايا أسباب قتل أولادهم! فالمسار الذي تذهب إليه الأزمة في سورية يمنع من أن يشكل الإصلاح فقط حلاً يمكن اعتماده، ولا الحوار أيضاً، لأن الوجهة التي يتحرك وفقها النظام لا تقبل بوجود طرفان متوازنان لإدارة الحوار، فالدبابات التي تدخل المدن لا توازنها حناجر المتظاهرين لكي تتنازل لها عن امتيازات ورثها بشار الأسد عن أبيه. ربما تخطت الأحداث فكرة الإصلاح ذاتها رغم محاولات إنعاشها إقليمياً ودولياً، فما يحتاجه السوريون اليوم هو أن يتحوّل نظامهم السياسي إلى المشروعية الداخلية بحيث لا يعود يشكل خطراً على الناس ويدفّعهم أكلاف سياسات تتجاهل توجهاتهم، ما سيكون أفضل لهم ولمحيطهم الإقليمي، فسورية ستخرج من هذه الأزمة أقوى فيما لو دخلت الحريات إلى المدن بدل الدبابات. * كاتب لبناني