الضغط بهدف الاصلاح في سورية، او بهدف تفكيك النظام القائم لتغييره، ليس مهمة يسيرة، إذا اخذنا في عين الاعتبار طبيعة هذا النظام والظروف الخارجية والداخلية التي وفرت له سبل القيام والاستمرار على مدى اكثر من اربعين عاماً، فالسلطة القائمة لم تأت فقط نتاجاً لواقع سوري خاص، وان بُذلت الكثير من الجهود على مدى عقود لتبرير قيامها، وصولاً الى تأبيد صورة الحاكم الملهم الذي يختصر بشخصه كل الشعب في ماضيه وحاضره ومستقبله، بل هي كانت تتويجاً لمسلسل الانقلابات التي وأدت تجربة برلمانية واعدة كانت تتطور تدريجاً في دول المشرق العربي قبل ان تنقض عليها الثورات الانقلابية العسكرية من القاهرة الى بغداد الى دمشق... لذلك يصعب الحديث عن ثوابت داخلية لتلك السلطة تبرر نشوءها واستمرارها خارج مدرسة التسلط العسكري والمخابراتي، أما العوامل الحقيقية التي مكنتها من الاستمرار والتوريث، فيجب البحث عنها في مكان آخر، خارجي تحديداً. هذا الفصل بين الداخلي والخارجي قد يبدو اعتباطياً، إلاّ أن مبررات قيام أي سلطة هي التي تحدد قاعدتها الاجتماعية والسياسية، وفي الحالة السورية بدا توطد دولة البعث بعد عام 1970 تلبية لحاجات اقليمية ودولية اكثر منه استجابة لمصالح الشعب السوري العليا في قيام دولة عصرية ديموقراطية وطنية تقدم حلولاً عملية لمشكلات الاحتلال والتنمية. كان اليساريون العرب اول من توجس من الحركة التي قادها الرئيس الراحل حافظ الاسد في عام 1970، والتي سميت «الحركة التصحيحية»، داخل حزب البعث الحاكم وأودت بما كان يطلق عليه الجناح اليساري في الحزب، الا ان هذا التوجس سرعان ما اضمحل لصالح بناء علاقة مع النظام الجديد بسبب من توجيهات سوفياتية على الاغلب، وتلقى الاتحاد السوفياتي مكافأته في العام التالي تسهيلات لأسطوله البحري في مرفأ طرطوس. في أجواء الصراع الاردني الفلسطيني المسلح عام 1970، تبلور النظام السوري الجديد، الذي سيتمكن لاحقاً من الإمساك بالمقاومة الفلسطينية في لبنان وسيرسي بعد حرب 1973 مع اسرائيل هدوءاً على الجبهة مع العدو برعاية اميركية-دولية لم تَشُبْه شائبة توتر واحدة منذ ما يقارب اربعة عقود. كانت حرب لبنان فرصة جديدة للنظام «الوطني التقدمي» للدخول الى هذا البلد تحت عنوان الحفاظ على وحدته وحماية الثورة الفلسطينية فيه، الا انه عنوان كان يضمر كل شئ سوى المعلن فيه، فمرحلة الوجود العسكري السوري زادت الانقسامات اللبنانية ولم تحقق الوحدة، فتفاقمت الحروب الداخلية بين اللبنانيين انفسهم وبينهم وبين الفلسطينيين من جهة ثانية، وتحت شعار حماية لبنان من العدوان الاسرائيلي، شنت اسرائيل اول اعتداءاتها الواسعة على الجنوب عام 1978، لتقيم في العام التالي شريطها المحتل باسم «دولة لبنان الحر». كرس النظام التصحيحي نفسه خلال تلك السنوات (1970 –1980) حاجة اميركية-اسرائيلية-عربية على مسرح تقوم حبكة عرضه الرئيسية على عنصرين: الامن على الحدود في الجولان وضبط الوضع الفلسطيني في لبنان، الموقع الأخير للثورة الفلسطينية المطرودة من الاردن والممسوكة في بلدان انظمة المخابرات الوطنية الاخرى، واستمرت هذه المعادلة حتى الاجتياح الاسرائيلي للبنان في عام 1982، الذي انتهى الى إبعاد منظمة التحرير الفلسطينية كهدف اميركي-اسرائيلي لم تكن الانشقاقات المرتبة اللاحقة داخلها إلا تفاصيل محلية لذلك الهدف. مثلت تطورات صيف 1982 محطة مهمة في استكمال شبكة اصدقاء النظام، الاتحاد السوفياتي قرأ فيها اشتباكاً مع الغرب في سياق الحرب الباردة، فعزز دعمه واعتماده على سورية، وايران الخمينية المشتبكة مع عدو دمشق اللدود صدام حسين، رأت الفرصة مناسبة للتمدد نحو المتوسط بذريعة محاربة اميركا واسرائيل، وهكذا كسب النظام اصدقاء جدداً وباتت ركائزه الخارجية تمتد من ترتيبات غربية–عربية أُرسيت على امتداد عقد سابق، الى وقائع جديدة قوامها تحالف مع ايران الاسلامية وانخراط سوفياتي مكثف سيستمر حتى انهيار الانظمة الشيوعية وبداية مرحلة ثالثة من توسيع شبكة الامان الخارجية للنظام. هذه المرحلة الثالثة يمكن لحظ بدايتها في انخراط القيادة السورية ضمن التحالف الدولي الذي قادته اميركا لتحرير الكويت، وتوجت باتفاق أضنة مع تركيا في عام 1998 الذي انهى عقوداً من التوتر مع الجارة الشمالية مقابل إنهاء نشاط حزب العمال الكردستاني في البقاع اللبناني و «تخفف» دمشق تدريجاً من استضافتها لمنظمات ثورية دولية أبرزها الجيش الاحمر الياباني... ورث الرئيس بشار الاسد هذه الترسانة من العلاقات في عقد بدأ يشهد تحولاً نحو الانفكاك عن المرحلة الماضية، ووجد نفسه موضوعياً في نظام تتقاسمه قوى اقليمية ودولية كل منها له فيه حصة ما ومصلحة اكيدة. بدا النظام وكأنه باص صُنع قبل عقود وقد ذهب صانعوه الى التقاعد او الى لقاء وجه ربهم. وعندما احتاجهم (الباص) كانوا نسوا موقع التوصيلات واضاعوا العدة. يصح ذلك خصوصاً مع الاصدقاء الغربيين والشرقيين، ولايصح مع الايرانيين، كما انه يصح مع العرب المعتدلين والممانعين الا انه لا يصح مع الاصدقاء اللبنانيين، رغم «نأْي» إخوتهم الفلسطينيين المقيمين في دمشق بأنفسهم باكراً عن الصراع. عندما اندلعت الاحتجاجات في سورية، بدت وكأنها انتفاضة السلطة على المواطنين، باعتبار ان ما جرى من تنكيل بفتية درعا لم يكن نتيجة ثورة شعبية بل عملاً قمعياً استباقياً، لم يسارع احد الى ادانة النظام، بدا جميع «الشركاء» في الخارج وكأنهم لا يصدقون احتمال حصول شئ ما ضد النظام الاقوى في المشرق العربي. الاميركيون الذين طالبوا حسني مبارك بالتنحي بعد أيام على بدء الثورة ضده لا يزالون يتعاطون مع دمشق تحت سقف تغيير سياسة النظام لا إسقاطه... حتى اللحظة على الاقل. الاوروبيون بدورهم لم يخرجوا من تحت العباءة الاميركية، مع ان تهديداً قذافياً واحداً بالزحف على بنغازي كان كافياً لاستنفار مجلس الامن الدولي، من دون ان ينأى احد بنفسه، لشن حرب جوية وبحرية كاسحة ضد جماهيرية العقيد. الدول العربية الرئيسية انتظرت، وعندما ابدت رأيها، تركت الباب مفتوحا امام القيادة السورية لتقود التغيير بنفسها... تركيا التي قدمت نفسها بعد ايام على اندلاع الاحتجاجات في سورية عاملاً اساسياً في دفع عملية التغيير، تحولت الى اجترار خطاب يمهل القمع مزيداً من الوقت بحسب مراقبين كثر. ألا يعني كل ذلك ان النظام في سورية هوحالة اقليمية-دولية إزاحته تتطلب تغييراً جذرياً في المعادلات التي قام عليها وترعرع على مدى اربعين عاما؟ ثم ألا تعني تجربة خمسة اشهر من المعاناة والقتل والخوف، أن المسألة برمتها ملقاة على عاتق السوريين انفسهم، فهم أصحاب الارض والنظام والدولة، ولا يمكنهم الركون الى أوهام سبقهم اليها اشقاؤهم اللبنانيون على مدى عمر النظام إياه ومكوناته... الخارجية. * صحافي لبناني من أسرة «الحياة»