يئنّ الناس من وطأة «المسلسلات الخليجية» على أعينهم في رمضان، تلك التي تعيد وتكرر ذاتها، من خلال معالجة القضايا، وبثّ الرسائل وإعطاء الدروس. مشاهد تكررت منذ ثلاثين سنةً وتتكرر اليوم، حتى وجوه «سيدات الشاشة» أو «سادة الشاشة» هي ذاتها تلاحق الأبصار. يعاني الناس الباحثون عن أعمالٍ فنية يمكنها أن تكون ملهمة في إبداعها قبل أن يجدوا عملاً يستحق المشاهدة، إنها أقرب إلى برامج التوعية منها إلى الأعمال الفنية، وما بين الحلقة الأولى والأخيرة، حكم ونصائح وتوجيهات، بعيدة كل البعد من معنى الفن ببراءته الأصلية التي لم تلوّث بالقهر الرسالي الذي يؤذي المشاهد ويلوث ذائقته الفنية. الفنون التي يبدع المجتمع في نحتها، تعبر عن الرقيّ وتطور الرؤية، ولا يمكن مجتمعاً يفتقر إلى الرؤية الفنية المختلفة أن ينجز واقعاً مختلفاً، فالفنّ من خلال فضائه المفتوح يمكنه أن يصنع واقعاً مفتوحاً حتى من دون أن يضم رسائل فكرية أو إصلاحية. وضع الفيلسوف الألماني هيغل «الفن» ضمن المراتب التي تقود إلى إغناء الذات، كما يعتبر «غاية الفن» إيجاد «تكوينات أخرى». غير أن تلك التكوينات لا تنحت إلا من خلال تطوير الرؤية الذاتية للفن، فالتطور بكل مجالاته مرتبط بمستوى «الرؤية الفنية»، فحين كان الإغريق في ذروة مجدهم، كانت الفنون في ذروتها، وكذلك الأمر في أوروبا حين كانت الفنون التشكيلية والموسيقى والسينما في ذروتها كان التطور شاملاً كلَّ مجالات الحياة. إن هذا الثقل التاريخي الذي نعاني منه في العجز عن مغادرة التفاهة الفنية مرده العجز عن تطوير مستوى الرؤية الفنية. تفتخر المجتمعات بالأعمال الفنية الخالدة التي أنجزتها، في الفنون كافة، بينما يمعن المنتج الخليجي في تكرير الانحطاط الذي يعاني منه الفنّ الخليجي عموماً، بحيث تستهلك المساحات الإعلامية والفضائية، وتعاد القصص ذاتها، وتحنّط الشخصيات نفسها لعرض حلقاتٍ بصرية لا يمكن أن تمتّ إلى الفن بصلة. ففي الدراما الخليجية لا يمكن إلا أن يلاحظ المرء المسافة الكبيرة بين الممثل والنص، حتى إن الشخصية التي يؤديها لا علاقة له بها، وهو يقرأ من ورقةٍ حفظها ونسي جلّها، ما يضعنا أمام ظاهرة «خطابية» لا فنية. وليس من المبالغة القول إن المسافة بين العمل الهشّ التافه والعمل الفني المرتبط بالرؤية توازي المسافة بين التطور والانحطاط. باختصار، الشعور بعظمة الإبداع الفني نشعر به من خلال ما يسميه هيغل «روح الإشباع» الذي يمنحه العمل الفني للأرواح البشرية الجائعة إلى الرؤى الفنية العظيمة.