تعتريني أحياناً في أوقات الفراغ حالة من الفضول والرغبة لمتابعة ما يجري في ما يسمى ب «الوسط الفني» فآخذ كل ما تصل إليه يدي من بعض المجلات الفنية، التي يطيب لي تسميتها ب «مجلات النميمة» لأجد أقذع الألفاظ تخرج من ألسنة «الفنانين»، كيف يملك الفنان العربي كل تلك القدرة اللفظية والكراهية المهنية... في مجلات «النميمة» تعثر على صور غلاف مصقولة لتلك الفنانة، أو ذلك الفنان يصحبه تصريحه المتشنج حول الفنان المنافس، أو الاتهامات، بل وصلت بعض الخلافات إلى المضاربات المتبادلة بين من يدّعون الفن. هل نقارن هؤلاء بريتشارد فاغنر أو لودفيج فان بيتهوفن أو فولفغانغ أماديوس موتزارت الذين كانوا يعيشون الفن بوصفه حالة وجودية، واعتمدت تآليفهم الموسيقية على رؤى فلسفية للكون والعالم والطبيعة، ولم يكن فنهم مكرّساً للمناوشات الصبيانية، صحيح أن بيتهوفن كان رثّ المظهر متسخ الجسد طويل الأظافر، لكنه كان مسكوناً برؤى عدة للوجود أسهمت في صياغة سيمفونياته الأشهر في تاريخ الموسيقى الأوروبية، أما ريتشارد فاغنر فإن أغانيه الشارحة لمأساة الإنسان ملهمة للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، بل إن كتاب نيتشه «مولد المأساة» هو تعبير عن إلهامات موسيقى فاغنر له ولفلسفته - وعلى رغم الخلاف الشديد الذي نشب بينهما بعد أن كانا أعزّ الأصدقاء ليتحولا إلى ألدّ الأعداء - إلا أن نيتشه بقي يضمر الحب الشديد لريتشارد فاغنر، رغم القطيعة التي شابت علاقتهما حتى الموت. لم يكن الفنّ مجرد «طقطقة» بالطيران المسخّنة ب «الدوافير»، وصوت زاعق من «الشوارعية» الذين كانوا يغنّون في الاستراحات المهجورة، أو صراخ صحبته نغمات عود تافه رخيص الثمن، وإنما عبارة عن رؤية ذاتية محددة من كل شيء، فالفن في أعمق تجلياته عبارة عن شرح لخلجات الذات، وعلى حد وصف هيجل فإن غاية الفن: «أن ينتج تكوينات أخرى» غير ما درجت التقاليد على إنتاجه، أن ينتج تكوينات تؤسس لمنافذ إبصار جديدة للعالم والكون بطريقة أكثر روحانيةً وتصوفاً وشوقاً، إنه ليس السخف والعفن المنتشر في بعض الفضائيات والإذاعات العربية، إنه ليس الرخص البصري المتمثل في بعض «الكليبات» العربية الهابطة، إن الفن درجة تصل بها الروح إلى حالة عصيّة على الشرح والتجسيد، حالة غير قابلة للإيضاح، إنه شريط النغمات المترابط، إنه المحيط الخطر حيث تغوص فيه الروح بلا نمط ولا شرح. كل فن يعبّر عن ثقافة أهله، والفنّ العربي في أغلبه يعبر عن انحطاط الثقافة العربية، وارتهان ثقافتها ومن بعده فنها للناجز والسطحي، وتطوّر الفن جزء من التطور الثقافي الذي لم يتحقق بعد في العالم العربي، يكفي أن تطالع تلك المجلات وتقرأ التصريحات التي يتفوّه بها أولئك «الفنانون» تجدها تنضح بالأساليب «.....» التي لا يمكن لمن تفوه بها أن تكون لديه أي رؤية فنية، جزء كبير ممن يدّعون «الفن» خرجوا من ثقافة «الطقطقة» في الأعراس أو الاستراحات، لهذا أكرموا «الفن» المرتبط بتاريخ الثقافة البشرية المتحضّرة من انتساب هؤلاء له، فلنسمهم زبائن مجلات «النميمة» فهذا أفضل. [email protected]