لا يكاد يخلو مجلس سعودي من أحاديث الإطراء والثناء على دبي، وتطور دبي، ونهضة دبي التي وسعت الآفاق، أضف إلى ذلك نظافتها وحداثتها من برّ دبي حيث المدينة القديمة حتى جبل علي في طرفها الجنوبي. إنها قصة السعوديين مع دبي وهي في واقعها قصة لا تنتهي بالمدح والثناء بل تضرب عميقاً في وجدانهم، وتضطرب معها معادلاتهم التي ألفوها، أو لنقل ابتكروها في غفلة من عقل جمعي ساقهم نحو مقارنات لا تنتهي. فعلاقاتهم التي توطدت بتلك المدينة المستلقية في حديقتهم الخلفية، تحولت لتكون حلم بعضهم في الحياة الدائمة، ومحطة سفر مستمرة للغالبية الساحقة، وأحياناً مصدر غيرة عند بعض العاجزين الذين ابتكروا لها شتى الأسماء والتّهم، لكن الاسم الأثير على قلوبهم يبقى «إنها فقاعة»، يقولونه عند أي نقاش أو جدَ خبرٌ عن تلك اللؤلؤة المتدثرة بعالميتها. تلك «الفقاعة» التي هام بها «أبناؤهم»، وأخذوا يقارنون بين كل «ملي متر» فيها بما لديهم، لم تنفجر حتى الآن على رغم الكارثة الاقتصادية العالمية التي عصفت بها قبل سنوات، ولا تزال دول كبرى تجثو على ركبتيها من قسوتها. دبي كانت متواضعة في تعاملها مع ذلك الحدث الصاخب، الذي لم يقتلعها، فانحنت مع انحناء العاصفة واحتمت بدهاء أهلها، فخرجت أو لنقل تكاد تخرج معافاة من أزمتها، فلا الفقاعة انفجرت، ولا الغيورون لحقوا بها. لكنها في النهاية دبي التي تعرفوا عليها بشكل جماعي قبل 15 عاماً، لتتحول إلى منتهى المال ومبلغ الأحلام، هل سمعتم يوماً بالحلم الأميركي الذي تجسد في نيويورك، لقد تجسد الآن بصورته الخليجية في دبي، لتكون الحلم الخليجي، ففي فنادقها وأسواقها ومنتجعاتها تخرج الحياة والفرح والحبور، كما يخرج الثراء الفاحش دونما تردد بعد أن كان مختبئاً خلف ستائر العفة والطهارة في الحسابات البنكية داخل المدن الخليجية وبنوكها. تستطيع في دبي أن تكون فيها «نفسك» بلا رتوش، وبلا أقنعة تخلعها في المنزل أو الاستراحة أو الشاليه، وتلبسها في العمل والمسجد، والشارع. دبي تلك التي يتغنى بها السعوديون بدءاً بنظامها المروري الصارم، مروراً بتقاليد الحياة الاجتماعية فيها وانتهاء بسقف حريتها العالي، ينسونها عند أول معركة مدنية في منتدياتهم وساحات نقاشهم، ويصبح المتغنون بها أشرس المحاربين لمظاهر المدنية والتحضر التي يتمنونها في بلدهم. ينسى بعض السعوديين أن «منظومة الحضارة» واحدة، فلا يمكن أن تمتدح النظام المروري في دبي وتهاجم ساهر في السعودية، بل تطالب باستئصاله وإزالته تماماً، وليس بتطويره وتهذيبه. تُبهر تماماً بالأبراج العالية التي يقتطع ملاكها نصفها لصالح الخدمات والمواقف، وأنت هنا تتحايل على البلدية بإغلاق المواقف وتحويلها إلى بقالات أو مشاغل، بل ربما عدم بناء المواقف من أساسه. تتغنى بنظام الحد من المعاكسات والمضايقات للنساء في دبي، وترى بعض الشباب السعودي العائدين من دبي ينتهكون خصوصية العائلات في الشوارع السعودية ويطاردون سيارتهم من حي إلى آخر. تمتدح نظام العمل ودقته في الشركات «الدبيانية»، وتنسى أن ذلك النظام مبني على المساواة بين الرجل والمرأة وأن الكفاءة فقط هي المعيار الحقيقي، وليس الذكورة، أو الاختلاط العارض. تغادر وطنك عدة مرات سنوياً إلى دبي لمشاهدة أحدث عروض السينما، وأنت تهاجم وتكفّر وتبدّع من يريد أن يشاهدها في الرياض أو جدة أو الطائف. إنها روح المغامرة التي اعتلت على جناحها دبي، فلا يمكن أن تظل ضارباً برجليك في أعماق الأرض والتاريخ، وحالماً أن تكون في «العالم الأول». التمدن والتحضر والبحث عن الحياة هي مغامرات فيها كثير من المخاطرة، لكن بلا مخاطر اجتماعية واقتصادية ستبقى حبيس هواجسك وخوفك الذي يكبر كل يوم وأنت تصغر كل يوم. إنها دبي ليست فقاعة يمكن أن تزورها لأسبوع تبتهج فيه، ثم تعود إلى مجلسك وأصدقائك منظّراً عن الحضارة وأهميتها وعن النقص في الخدمات والتنمية وتنسى أنك أنت أهم المعوقات في تطور بلدك، وأن دورك السلبي في العمل والشارع والحياة العامة سيبقيك تحت سقف دبي مهما حاولت أو هاجمت. [email protected]