طوال عامين ونصف العام، في دبي وأنا أتابع باهتمام شديد كيف تنمو هذه المدينة التي زارها سبعة ونصف مليون من السياح في عام 2008، منهم 900 ألف سائح عربي، ويختارها 40 في المئة من السياح السعوديين. بعد عامين استطعت أن أرى الفارق الكبير بين النظرة التي يروجها السائح العربي وبين من يتمتع بخدماتها كمواطن ومقيم. فالسائح لا ينظر إلا إلى فنادقها، ومطاعمها وأسواقها الفاخرة، والشك طافح في قلبه، لا يصدق ما يراه، فيحتج قائلاً: إنها مدينة مزيفة! دبي لمن يختبرها بعين المراقب الأمين، ليست هي الأسواق الكبيرة - التي لا تكتفي بأن تكون مجرد أماكن لبيع البضائع، بل تتزين بتصماميم تحاكي فنون العالم وأدابها، وبالنوافير والمجسمات- بل بحدائقها الشاسعة، ومكتباتها العامة للكبار والصغار، وجامعاتها. نجاح دبي ليس في حس عمارتها الفني وبنيتها التحتية، بل هي في مشروعها التنموي الخاص بإنسانها، وأولها التعليم، الذي يؤسس منهجاً يحاكي النموذج السنغافوري، أكثر المناهج نجاحاً، ويفتح باب المنافسة بين مدارسه. في دبي لا تجد اسماً لجامعة عالمية إلا و لها فرع في دبي، ومن يزور الجامعات والكليات المحلية، يجد منهجاً دولياً تحت إدارة وخبرات عالمية، تقتصر تخصصاتها على العلوم الحديثة كالتكنولوجيا والأعمال، ومن يزور «جامعة زايد للبنات» ويرى صفوفها ومعاملها وطاقم التدريس الدولي فيها يدرك أن المرأة في هذه المدينة تستعد لمستقبل يعد بالكثير. ودبي ترعى اليوم حركة ثقافية غير متحيزة مثل مهرجان الشعر الدولي، ومهرجان السينما الدولي، والسينما الخليجي، عبر مؤسساتها الثقافية وعلى رأسهم مؤسسة محمد بن راشد التي تعتبر أضخم مؤسسة ثقافية عربية رصد لها عشرة بلايين دولار. وفي دبي أفخم دور لعروض السينما، ومسرحيات بردواي، ومعارضها التشكيلية لا تتوقف طوال العام. في دبي يقف الناس أمام إشارتها الصفراء قبل أن تحمر،لا لإن سكان دبي المتنوع متحضر بالفطرة، بل لأن نظام مرور دبي يحرسه جنرال مهيب، اسمه القانون، يطيعه الجميع ويخافون منه، وأولهم المراهقون، أنا شخصياً أدفع غرامات كل سنة تعادل عشرة آلاف ريال سنوية من دون أن يوقفني شرطي واحد، فالكاميرات الحديثة تتربص بالسائقين في كل زاوية، تضبط السرعة والتهور والاستهتار حتى غير المقصود. وفي دائرة المرور لا أحد يفتش عن «واسطة». وعندما تقع حادثة مرورية ففي خمس دقائق تحضر سيارة مرور وإسعاف، وليس غريباً أن تسمع صوت طائرة طبية في طريق مختنق بالمرور تحلق لتسعف مصاباً، من دون أن تسأل عن جنسيته وجنسه. في دبي تشاهد «المترو» يتدرب للانطلاقة الكبرى، فتتساءل لماذا دبي كانت الأولى في هذا المضمار، ولماذا أغفلت المدن العربية باختناق شوارعها، هذا المشروع والذي مهما بدا مكلفاً إلا أنه اقتصادي ويستحق المغامرة. دبي مغامرة تنجو من الكآبة العربية بمشروع الإنسان المتحضر والمشرف على المستقبل، والذي لم تحرم منه المرأة بحجة تمييزات عنصرية، فهي مستفيد ومشارك ويحرس حقوقها الأسرية قانون للأحوال الشخصية صدر عام 2004. شوارع دبي عنوان تحضرها بنظافتها وأمنها، فالنساء يتجولن فيها بسياراتهن أومشياً على الأقدام، من دون أن تجرح آذانهن كلمة سافرة أو سلوك مشين، ومن دون حراسة وصي، أو رجل دين، بل يحرسها قانون عتي متين. دبي أصبحت فكرة متخيلة في أذهان شارع عربي، لا يريد أن يصدق أن دبي مدينة عربية دخلت من باب المغامرات منذ نشأتها، ونجحت بريادة مبتكرة، ولأننا نحن العرب لا نملك أنموذجاً ناجحاً، صعب على بعضنا أن يقف بأريحية عند بوابة دبي الذهبية ويصفق لصانعي هذا النجاح، وسَهل على ثقافة تنمو فيها النميمة باستطراد أن تحصي النقائص وتزيد عليها، وتتناقل إشاعاتها، أن دبي مجرد فقاعة صابون. [email protected]