من حسنات زمن التلفزيون الفضائي أنه خلط محطات العالم ولم تعد مشاهدة الشاشات الراقية ذات المستوى العالي من الحرفية والمهنية، حكراً على الدول المتقدمة التي تصنع فيها المواد والبرامج التي تبثها تلك المحطات إلى سكانها وسكان العالم برمته. ومن حسنات هذا الزمن الفضائي أن بين تلك الشاشات شاشات تبث على مدار الساعة علماً وتجاربَ واختبارات ونتائجَ كمحطة «ديسكافري ساينس» و«ديسكافري تشانل» و«انيمال بلانت». ولو أحصيت كمية العلوم التي تمر عبر هذه الشاشات يومياً، لملأت مجلدات عن كل أمور الحياة والعالم بدءاً بالخلايا والذرات وصولاً إلى أضخم الصناعات والاختراعات. وما توفّره تلك الشاشات عبر الأفلام الوثائقية فعلاً، هو تقديم العلوم للمشاهدين بمتعة ما بعدها متعة بعيداً من تعقيد القراءة بالكتب، لأنها أولاً مبنية على وقائع وحقائق خالية من المبالغات السينمائية والسيناريوات الخيالية والمواقف المجازية، وثانياً لأنها تخبر المشاهد حقائق أمور يعيش معها أو يقتات منها أو يستخدمها يومياً من دون أن يعرف كنهها وفوائدها وأضرارها. فتأتي تلك الأفلام وبوقت قصير لا يتعدى نصف ساعة، لتقدم للمشاهد بالصور والأرقام، كل ما يلزمه من معرفة حول أمر معين في شكل يجعله مشدوداً إلى الشاشة لحظة بلحظة ولا يرغب بأن يفوته من العلم شيء. وما يلفت في تلك الأفلام الوثائقية أن معظمها لا يتحدث عن أمر في لحظته وأوانه بل يعرض مشاهد عن تاريخ هذا الأمر وكأن كاميرا معد الفيلم كانت حاضرة لتوثق وتسجل اللحظات الماضية بنجاحاتها وإخفاقاتها، تمهيداً لتوليفها وإخراجها وتقديمها فيلماً في وقت محدد. مثلاً، عرضت محطة «ديسكافري ساينس» أخيراً شريطاً وثائقياً عن طائرة «اير باص ايه 380» وهي أكبر طائرة ركاب في العالم تتسع ل 550 مسافراً. يبدأ الفيلم مع الممثل الطيار جان ترافولتا معلناً أنه سيأخذ المشاهدين إلى قصة ولادة هذه الطائرة التي بدأ العمل عليها سنة 2004 ودخلت الأجواء عام 2008. الكاميرا كانت حاضرة من اللحظات الأولى وفي كل برهة وموقف، من التصميم إلى التسويق وإبرام الصفقات والتجارب والتصنع والتجميع الذي تم في أربع دول (فرنسا والمانيا وإسبانيا وبريطانيا) ونقل الأجزاء براً وبحراً وجواً وصولاً إلى مكان التجميع في تولوز في فرنسا، مروراً بالتدريب على انظمة افتراضية، وانتهاء بتركيب آخر برغي إلى أن تسلقت الهواء إلى عباب السماء. كل هذه الأمور مرّت على الشاشة في نحو نصف ساعة دوّنت تاريخ الطائرة بكل محتوياتها بفضل كاميرا كانت حاضرة على الدوام ثم جاء لاحقاً من أعدّ موادها واختصرها من دون تشويه لتصبح مادة تلفزيون يستمتع بها الجميع... لكن متى يصبح مثل هذه المتعة التلفزيونية محلياً، غير مستورد؟