توقفت المصالحة الفلسطينية عند الخلاف بين حركتي «فتح» و «حماس» على رئيس الحكومة، لكن صناع القرار في الحركتين يعترفون في اللقاءات الخاصة والمغلقة بأن هذه العقبة ليست سوى واجهة لعقبات أخرى أكثر تعقيداً جعلت المصالحة مشروعاً مؤجلاً الى حين ربما يكون بعيداً. وكانت الحركتان وقعتا في الخامس من أيار (مايو) الماضي في القاهرة على اتفاق مبادئ للمصالحة، لكن الحوارات التي أعقبت ذلك اصطدمت بخلافات على كل فقرة في الاتفاق. ولدى التوقيع على الاتفاق، اتفق الطرفان على الشروع في تطبيق الملفات وفق سهولتها، بدءاً بملف حكومة الوفاق الوطني، ومروراً بملف المعتقلين والمنظمة، وانتهاء بملف الأجهزة الأمنية الذي جرى تأجيله لمدة عام. وتوقف قطار المصالحة في المحطة الاولى التي بدت الأكثر سهوله لانطلاقته، وهي محطة الحكومة. لكن الخلاف على الحكومة لم يكن سوى رأس جبل الجليد القائم بين الجانبين. فمن جانبه، وجد الرئيس محمود عباس معارضة للمصالحة مع «حماس» لم يتوقع شدتها من لاعبين كبار مثل الإدارة الاميركية وإسرائيل وجهات أوروبية أخرى. ولا تخفي الادارة الاميركية موقفها الرافض بشدة للمصالحة، ونقل مسؤولون أميركيون للرئيس عباس تحذيراً مباشراً مفاده ان الكونغرس سيصدر قرارات تحظّر تقديم العون للسلطة الفلسطينية في ظل حكومة تشارك «حماس» في تشكيلها. كما نقل ديبلوماسيون غربيون عن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون قولها إن «هذا الاتفاق يجب أن يمزق». وتقدم الادارة الاميركية مساعدة سنوية للفلسطينيين بلغت قيمتها العام الماضي 474 مليون دولار، منها 210 مليون دولار للموازنة، والباقي لمشاريع البنية التحتية ول «وكالة الاممالمتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين» (اونروا). وتشكل هذه المعونة أهمية كبيرة للسلطة التي تعاني من أزمة مالية خانقة تركتها عاجزة عن دفع رواتب موظفيها. كما وصلت الى رئيس السلطة إشارات سلبية أخرى من دول مانحة، منها ألمانيا وبريطانيا واليابان وهولندا وغيرها من الدول التي تقول «اننا ننتظر لنرى»، مشيرة في ذلك الى انها لن تقدم العون لحكومة تشارك فيها عناصر من «حماس». وقدمت إسرائيل أكثر من إشارة الى نيتها وقف التحويلات المالية الجمركية للسلطة في حال تشكيل حكومة وفاق مع «حماس». وتشكل هذه التحويلات التي تصل قيمتها الى نحو مئة مليون دولار شهرياً، نحو ثلثي إيرادات السلطة. ودفعت مواقف هذه الاطراف الرئيس عباس الى التشدد في شأن تشكيل حكومة التوافق الوطني، إذ أصر على تسمية رئيس الحكومة وعلى تحديد برنامجها، وأبلغ وسطاء أنه الاقدر على معرفة «من هي الحكومة التي تتعرض للحصار ومن هي الحكومة التي لا تتعرض للحصار»، حتى انه أبلغ أحد الوسطاء أنه هو من سيتحمل المسؤولية أمام الشعب الفلسطيني عن أي حصار يتعرض له الشعب وليس رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل. ووجدت «حماس» في الخلاف على الحكومة وسيلة لتأجيل تطبيق المصالحة الى مرحلة لاحقة تضع فيها معالم الطريق الى المستقبل الاقليمي. وكانت الحركة أبدت مرونة عالية لدى التوصل الى اتفاق المصالحة وصلت حد إعلان مشعل منح عباس سنة أخرى للتفاوض مع إسرائيل. وقال أعضاء في وفد «فتح» للحوار إن وفد «حماس» أبدى مرونة مماثلة في ما يتعلق بتشكيل حكومة قادرة على «حمل الطرفين الى العالم، وليس حكومة يتوجب على الطرفين أن يحملاها الى العالم»، وفق تعبير عضو وفد «فتح» أمين مقبول. ويرى مراقبون أن «حماس» تتأنى في تطبيق المصالحة انتظاراً لنتائج التغيرات الجارية في دول المنطقة، مثل مصر وسورية. ويشير البعض الى تغيرات في الموقف الايراني من المصالحة انعكس على موقف «حماس». وكانت إيران دعمت المشروع المصري الرامي الى إتمام المصالحة بعد تغيير النظام. ويرى مراقبون أن إيران كانت تتطلع الى بناء علاقة جديدة مع مصر، لكن التطورات اللاحقة لم تصب في هذا الاتجاه، ما جعل طهران تعيد حساباتها من كل مساعي مصر، بما فيها مسعى المصالحة الفلسطينية. وقالت مصادر في «حماس» ل «الحياة» ان أزمة الثقة العميقة بين «فتح» و «حماس» هي العائق الاساسي أمام المصالحة. وأوضح مسؤول في «حماس» في غزة فضل عدم ذكر إسمه: «الجانبان يديران ملف المصالحة بعقلية الانقسام»، مضيفاً: «كل طرف يحاول أن يحقق من المصالحة ما حققه في الانقسام وربما اكثر على حساب الطرف الآخر». وقالت مصادر مطلعة في غزة ان «حماس» عملت على ضخ أعداد كبيرة من الموظفين في المؤسسات الحكومية في القطاع لضمان سيطرتها التامة على عمل جميع المؤسسات والوزارات هناك في فترة ما بعد المصالحة. وأضافت ان الواقع الحالي للمؤسسات الحكومية في قطاع غزة يجعل من الصعوبة بمكان إعادة الموظفين السابقين من مرحلة ما قبل الانقسام الى أماكن عملهم. وتشكل إعادة توحيد الوزارات احد الملفات الصعبة في وجه أي حكومة وفاق وطني قادمة. فحركة «فتح» تتطلع الى عودة جيش الموظفين من أبنائها المستنكفين عن العمل منذ سيطرة «حماس» على السلطة في القطاع، الى أماكن عملهم في المؤسسة الحكومية. اما «حماس» فتتطلع الى ضمان سيطرتها على المؤسسة الحكومية في القطاع في مقابل سيطرة «فتح» على المؤسسة الحكومية في الضفة. ولا تقل الملفات الأخرى صعوبة، خصوصاً الملف الامني وملف منظمة التحرير. فحركة «حماس» تتطلع الى بقاء سيطرتها على المؤسسة الامنية في قطاع غزة لحماية مصالحها السياسية في القطاع، والى الحصول على حصة مهمة في منظمة التحرير الفلسطينية تؤهلها للمشاركة في القرار السياسي. في المقابل، تتطلع «فتح» الى إعادة أبنائها المستنكفين عن العمل في المؤسسة الامنية في قطاع غزة منذ سيطرة «حماس»، والذين يزيد عددهم عن 50 ألفاً. ويتساءل الكثيرون من قادة «فتح» عن الجدوى من مشاركة «حماس» في منظمة التحرير في وقت تعمل الحركة على تكريس سيطرتها على المؤسسة الحكومية المدنية والامنية في قطاع غزة. وأمام تعثر قطار المصالحة وعدم مغادرته المحطة الاولى، ظهرت اقتراحات من الجانبين للعمل في الملفات الهامشية. واقترح الرئيس عباس في خطابه أمام المجلس المركزي لمنظمة التحرير الأربعاء الماضي الشروع في معالجة الملفات السهلة مثل جوازات السفر والمعتقلين، فيما اقترحت «حماس» تشكيل لجنة عليا لدرس العقبات وتقديم اقتراحات للتغلب عليها. وقال وزير الخارجية في الحكومة المقالة في غزة محمود عوض: «اقترحنا على الممثل الشخصي للرئيس عباس الذي زار غزة أخيراً تشكيل لجنة عليا لدرس الواقع الفلسطيني في ماضيه القريب، والاستفادة من هذه الدراسة، والعمل على إزالة كل أسباب الفرقة والخلاف والوصول الى برنامج موحد يضمن الشراكة السياسية، وتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، والعمل على إنهاء أشكال الصراع بحيث يتم ضمان وحدة الصف بعد المصالحة وضمان مصلحة شعبنا كهدف أساسي ووحيد في كل تعاملاتنا». كما اقترح عوض تشكيل حكومة مدعومة من الدول العربية والإسلامية «بديلة لحكومة مدعومة من الغرب». وتظهر اقتراحات الجانبين قناعتهما بعمق الازمة التي يقرّ كل منهما في لقاءاته الخاصة بأن ملف الحكومة ورئيسها ربما يكون الملف الأسهل فيها وليس الأصعب وفق ما يبدو على السطح.