غالباً ما تتيح الأعمال اللاحقة على العمل الأول إعادة النظر، فهي إما تثبت النجاح السابق أو تؤكده كضرب حظ لا أكثر. في هذا السياق، يأتي العمل الثاني لفريق «مشروع ليلى» اللبناني، بعنوان «الحل رومانسي»، ليطرح أسئلة في هذا الاتجاه. ففيما جاءت أغنيات الألبوم الأول عن الهم الجَمْعي، مركّزة على تفاصيل سياسية (كالشهادة والحاجز والهجرة)، واجتماعية (الحب العابر للطوائف)، وموسيقية إرثية (تك تك يا أم سليمان، أو عمي بو مسعود)، يضعنا الألبوم الثاني وجهاً لوجه أمام فردية أكثر وضوحاً، محتفياً بالبؤس الفردي، وهارباً من صخب الخارج نحو صخب الداخل. هذا الانطباع سرعان ما يتأكد في الأغنية الثانية في الألبوم، «حبيبي». إذ بعد مقدمة ابتدائية تقول: «حبيبي بيحكي بالأجنبي، وبيلدغ بالعغبي (العربي)»، نظن أننا إزاء نقد اجتماعي مبطن. إلا أن هذا الانطباع سرعان ما يهوي تحت وطأة كلمات الأغنية التي تُعلي من صفات فردية و «تطبّعها» بلا تهكم أو حكم مسبَق. نحن في غرفة، لا نعرف إن كانت موجودة أم أنها في رأس الشخص فقط... «كل شي صاير برّات نفسه». ولا تلبث الأغنية أن تلتوي باتجاه شعريّ: «شوف الكتاب عم يتجعلك تحت المخدة/ وريحة شعرِك عالشرشف حدي/ والناس دايرة بسياراتا برات الشباك/ وأنا قاعد متل التربة ضايع بين إيديك»، فيكتمل المشهد الذي بدأ بالحديث عن حبيب مغيّب، وانتهى تراباً على أرضية الغرفة، بين داخل مغلَق، وشباك مفتوح هو صلة الوصل الوحيدة بضجيج الخارج. ومن هذا الشباك تحديداً، يطل الشخص على المدينة. فتأتي أغنية «قول إني منيح» لتثبت البؤس الفردي، مكرسةً أسلوباً دأب حامد سنو (عضو الفريق وكاتب الكلمات) على اتباعه، يخرج الكلمات من سياقها، «قوم نحرق هالمدينة ونعمر واحدة أشرف»، بكل ما فيها من دلالات سياسية، ويثبت أن استخدام هذه المصطلحات في السياسة هو أصلاً خارج سياقها الطبيعي، وهي تحمَّل في استخدامها هذا ما لا تحتمله، حتى يكاد استرداد هذه الكلمات في الأغنيات يقول للسياسيين: «توقفوا عن رشقنا بسخافاتكم اللفظية»! لكن الفريق لا يتمادى في هذه الإشارات، بل يواصل انحدار المشاعر في ترتيب أغنيات قد يكون اختير لإيصال هذا المزاج: «كان بدي غيّر العالم، مش عارف كيف العالم غيّرني»، خاتماً بطلب وجودي يحتوي إجابته في باطنه: «قول إني منيح؟». ثم ينقلب هذا المزاج الاكتئابي عذباً شجناً في استعادة لأغنية المونولوجيست اللبناني عمر الزعني، «أم الجاكيت». وتماماً كما كلمات السياسيين المنزوعة من سياقها المعتاد، نُزِعت أغنية الزعني من سياقها المتهكم لتصبح أغنية عن معرفة الأشخاص الذين يمرون بجانبنا فنحفظ هيئاتهم ولا نعرفهم فعلاً: «يا أم الجاكيت والبنطلون/ شفتك واقفة فوق البلكون». وتأتي فواصل الكمان (يعزف الأساسي منها هاييغ بابازيان) كرافعة أساسية لهذه العذوبة، أو تبرز إيقاعات غير مألوفة، كالنقر على آلة كاتبة قديمة. في الأغنية الخامسة، «وجيه»، يعود الفريق إلى صخبه. ويشي عنوان الأغنية بأن صاحبها حقيقي وهو «قاعد مش شايف إلا حالي... مش شايف إلا زبالة». ويؤتى هنا بالأطفال ليكوّنوا أصواتاً تشجيعية مصاحبة. ولا حرج من استعادة الرسوم المتحركة اليابانية والسينما والتلفزيون: «حاجة تعملي جونغار، وأنا أعمل شويكار». ونكاد نتخيل الشخص مغادراً غرفته ومحيط بيته، ومنطلقاً في الشارع، تاركاً العنان لعنفه أو لملاحظة عنف محيطه، ونكاد نرى زخات الرصاص الحمراء: «ورصاص ورصاص ورصاص»... جملة متكررة في الأغنية. هذا العنف لا يلغي أغنية أخيرة في الألبوم يرد فيها «الحل رومانسي بس مش غلط». تبدو هذه الأغنية كالفضاء الخارجي لكل ما سبق. كأن الغرفة الموصوفة في الأغنية الأولى أصبحت أكثر صلة بالعالم الخارجي، وأكثر مصارحة. ويطرح الاستماع المتكرر للأغاني شكوكاً: هل كل هذه التفاصيل مقصودة؟ أم إنها ضرب حظ موفق ثانٍ؟ الجواب يأتي على صفحة الفريق على «فايسبوك» والتي تروج لحفل إطلاق الألبوم غداً في بيروت (ميدان سباق الخيل - قرب المتحف). إذ كتب مديرو الصفحة في وصف ألبوم «الحل رومانسي»: «هو عن الرواسب الاجتماعية للمدينة، عن رجل يدعى وجيه يلبس ملابس النساء للتسلية في رحلة غروره، عن فتاة تبحث عن الزواج من أجل الاستقرار الاقتصادي، عن ثوري سوداوي يستسلم لمجتمعه، عن برجوازي يفتقر إلى المسؤولية... هذه مجموعة أغانٍ تحدث في غرفة نوم بشراشف منفوشة وسجاد مبقّع، تحوي رفاً من الكتب المرجعية، فيما لاعب أسطوانة الفينيل الصدئ يسمِع موسيقى وترية لزوج من العشاق الشباب يحاولان البقاء على قيد الحياة في هذه المدينة». إنهم يدرون ماذا يفعلون.