بعد انتهاء الفقر المدقع حسب ما صرح به أحد الوزراء الأفاضل، فإن ما يوجد في الأحياء الفقيرة في جدة ليس فقراً بل حالات أشبه بالفقر، وربما هي فقر ليس مدقعاً، ولذلك فسنتحدث هنا عن فقر لا مدقع و«لا يحزنون»، ففي جدة التي أعرف تفاصيلها كثيراً يوجد ما يمكن أن يطلق عليه خط فقر شديد، تكون عبر عقود نتيجة لظروف المدينة والهجرة إليها من خارج البلاد ومن داخلها. ذلك الحزام الذي كون نسيجاً اجتماعياً فقيراً وغارقاً في البؤس، لم يعد يستطيع الانعتاق من تلك الحالة القاسية التي وجد نفسه فيها، بدءاً من الأحياء البدائية حيث لا تخطيط ولا طرق ولا أي مظهر من مظاهر المدنية. فقط أحياء نشأت نتيجة لحاجات الناس، هنا بقالة العم حميّد، وفي الناصية البعيدة صيدلية صغيرة، وهناك مشغل من درفة واحدة يعرض خروقاً بالية، هكذا نشأ الحي لأن شخصاً ما وعائلته سكنوه قبل 70 سنة، وما حولها في تلك الأراضي الفضاء لتتكون حوله المنازل بكل أشكالها الشعبية، منتجة أحلام الناس وآمالهم بحياة أخرى بعيداً عن فقر القرية أو فقر بلدانهم الأصلية. المهم أن تلك الأحياء ضمت بين جوانبها الفقراء الذين «بناهم» الفقر جيلاً بعد جيل من دون رحمة، ومن دون أن تتلقفهم أية برامج حقيقية تنتشلهم من تعثرهم، أو تدمجهم في المجتمع الأكبر المحيط بغناه وأمواله وحياته الرغيدة بهم. وجولة بسيطة في خط الفقر «الجداوي» الممتد من بني مالك مروراً بحي الجامعة وكيلو سبعة إلى كيلو «ارباطعش»، وعودة نحو مدائن الفهد والنزلتين والهنداوية وحارة البحر والسبيل والصحيفة وصولا إلى حي بترومين وما جاورها. تلك الأحياء العتيقة ليست فقط هي ما ينمي الفقر ويرعاه، بل هي حالات الإحباط وانعدام الآمل التي تفصل بين الحياة والموت البطيء، يعيشها سكانها يوماً بيوم، حيث تنتهي أحلام الناس، وتبدأ معها أوهام الغد الجميل، الذي لم ولن يأتي فيما يبدو أبداً. لم أسمع حتى الآن عن حلول حقيقية تبدأ من بناء حياة الناس داخل أحيائهم، وليس هدمها وإخراجهم منها، فهؤلاء المستورون داخل منازلهم الشعبية، لا يمكن أن يعيشوا في أحياء أكثر كلفة ولا في معيشة أكثر احتياجاً للمال. هم مدوا أرجلهم على قدر لحافهم البسيط، لذلك فالحل هو في بناء منظومة من العلاجات تبدأ بتعديل أوضاع غير السعوديين أو إعطائهم إقامات دائمة، فكثير منهم هم من «المجاورين» الذين فقدوا الاتصال بأوطانهم، وهم الغالبية على مدى عقود مضت غيّرتهم وسعودتْهم، ولا يحملون في صدورهم غيرها، ولا تنتهي بضخ التعليم في مفاصل أبنائهم وبناتهم ومن ثم تشغيلهم في مهن نذهب إلى أقاصي الدنيا لنجلب عمالتها بينما الحلّ بين أعيننا وعمينا عن رؤيته. إضافة إلى تحسين ظروف حياتهم وشوارعهم، والمياه والصحة، إنها قضية بناء المدينة من أسفلها حيث القاع الذي يولد الدموع والعجز والمرض. [email protected]