لا تبعد كثيراً عن عمّان. دقائق لا تتجاوز العشرين في أبعد تقدير وتجد نفسك في مناخ طبيعي/ عمراني يختلف عن العاصمة المجاورة. في عمّان أسراب البيوت تحط على التلال كأنها طيورٌ حجرية تهوى الأرض أكثر مما تهوى الفضاء، إلّا إذا اقتلعتها أبراج الإسمنت التي بدأت بنهم ووقاحة تنشب مخالبها في الهواء والتراب مشوهةً هوية المدينة العمرانية سعياً وراء حداثة متوهَمة وتقليدٍ لا ضرورة له، ولا لزوم لمدن أخرى باتت كتلاً خراسانية لا حيز فيها لخضرة ولا لزرقة. ولا أظن «فيلادلفيا» الضاربة في التاريخ والجغرافيا تتخلى بالهين عن وشاحها الحجري الأبيض الذي يشي بما في قلوب أهلها من بياض مُزمن حتى لو حرمتنا «العبسة» التقليدية من رؤية بياض الأسنان إلّا نادراً! في الفحيص ثمة شيء من عمان، من بياض عمارتها وانفتاح أفقها على السماء الزرقاء من كل الجهات، لكن فيها أيضاً من خضرة الأشجار التي تغدو هنا أكثر كثافة وإلفة مانحةً المكان طراوة أشبه بطراوة الندى في صبيحة تستعد لارتداء قميص النور المشمس. وكأن هناءة العيش هنا تستمد بعض روحانيتها من الصلوات المتمازجة بقرع القلوب والأجراس معاً. كأنها مزيج من مدينة وقرية. ثمة العمران والبنيان وصخب الحياة و ضوضاؤها - خصوصاً في فترة المهرجان، مهرجانها السنوي – وثمة التراب والعشب والأشجار الوارفة وهدوء الأزقة والبيوت العتيقة الغافية خلف أبواب خشبية لاعبتها رياح الدهر تاركة فيها ندوباً وبصمات لو حكت لأصغينا إلى تاريخ آخر غير الذي ترويه لنا الكتب المدرسية المدروسة بعناية غير فائقة. وثمة الهضاب الخفرة السمحاء المطلة على الضفة السليبة والقدس التي تبعث ليلاً بعضاً من أنوارها رسلَ شوق ونداءات استغاثة. في حمى الغساسنة وأحفادهم حيث الكنائس العتيقة تذكّرك كيف تعانقت على هذه الأرض صلوات كثيرة لإله واحد، تستشعر ليونة الحياة وطراوتها وإلفة الناس مع أهلهم وجوارهم وجيرانهم، مع ماضيهم وحاضرهم... ومستقبلهم لولا ما يعصف بالمشرق من رياح سموم. ولعلك لولا اختلاف طرائق العلاقة مع الإله الواحد نفسه لا تميز بين أردني وآخر إلّا بالمحبة والمعرفة وحميمية الصداقة كتلك التي التي تجعل شاعراً كجريس سماوي ينسى لقب «معالي» (وزير الثقافة) ليتحول مرشداً ثقافياً/ سياحياً فخوراً بمدينته وأهلها الذين يحبون الحياة ويبتكرون إليها سبيلاً على رغم كل الأوجاع و الآلام والعذابات التي توحّد مدننا من المحيط إلى الخليج. ما تعيشه في الفحيص من تآلف الناس مع ترابهم وهوائهم ومكوّنات وجودهم التي تتداخل فيها و تتمازج المشرقيات الإيمانية كلّها، يجعلك أكثر قناعة بأن هذا المشرق هو فسيفساء الله على الأرض، وملوانة السماء التي يفترض أن تبث قوسَ قزح من الراحة والبهجة والحبور والتواصل الروحاني العميق الجامع الموحد مع العليّ الأعلى، لولا سعي البعض إلى جعلها لوناً واحداً أسود يُوقع سقفَ السماء على رؤوس أبناء الأرض جميعاً، ويُقفل أبوابَ المستقبل ويحوّله ماضياً لا إشراقة فيه ولا بصيص. وليته (هذا البعض) يأخذ من ماضينا ما فيه من تلاقح «الإيمانات» وتفاعلها وتضافرها جميعاً في ولادة ما نسميه «الحضارة العربية»... بل أكثر من ذلك، لا نغالي إذا قلنا إن المسيحية المشرقية بكل أطيافها مكوّن أساس من مكوّنات «الحضارة الإسلامية». وهذا مطران جليل من لبنان اسمه جورج خضر يقول: «الإسلام جزءٌ من كنيستي». على رغم ما تمنحه الفحيص لنفس زائرها من سكينة وسرور، لا يخفى على عاقل أو لبيب قلق الجميع على الجميع ومن الجميع... هذه عمّان تشهد التظاهرة تلو الأخرى على إيقاع «فتوى شاذة» (أبو فارس) رفضها معظم الأردنيين، وتلك الشام القريبة الحبيبة تُدفعُ دفعاً نحن آتون فتنة لن تُبقي ولن تذر إذا لم يستدرك المدركون حجمَ ما يرسم ويُحاك، جاعلين الإصلاح الضروري المُلّح خيرَ أداة ودواء لمواجهة المؤامرة، فيما لبنان غارق في انشطاره العمودي المخيف، والعراق ذبيح مصالح لعبة الأمم... وهنا قبالتنا تماماً فلسطين الساكنة في القلب والوعي والوجدان لا يُدرك قادتها كلهم طريقاً للوحدة والخلاص من احتلال بغيض منتشٍ بما يُصيب العرب أجمعين من تشظٍّ وفرقة وانشطارات، و لئن تابعنا التعداد لما انتهينا، من البحرين إلى السودان ومن عُمَان إلى المغرب العربي الكبير بهمومه وأزماته. آه، آه لو يستلهم القادة جميعاً، قادة الفكر والرأي والساسة والزعماء والموالون والمعارضون، بعضاً من مقدرة الناس، بسطاء الناس، على تغليب إنسانيتهم على كل ما عداها، ويستمدون منهم روح التآلف والتناغم والتفاعل والانسجام والاختلاف الحضاري المولّد طراوةَ العيش والحياة كما في مدننا «الفحيصية» الشاهدة على كون هذا المشرق، مشرق شمس الرسالات جميعها لا تُكتب له حياة سوى بتنوعه وتعدده و بقائه موئلاً لكل أطيافه ومكوّناته التي متى ما غرقت في جحيم التناحر مضت نحو «انتحار جماعي» لا قيامة بعده ولارجاء. ليتهم يدركون أن الفسيفساء متى فقدت جزءاً منها مهما كان ضئيلاً أو متواضعاً تداعت سائر الأجزاء. آه، لو نغلّب قليلاً - أو نجرب – الإيمان على التدين، لا على الدين الذي يظل واحداً مهما اختلفت الأسماء. فالإيمان لا التدين الطقوسي الشكلي الظاهري ما يمنح الدين والدنيا جدواهما بل الإيمان الروحاني الجواني العميق الطاهر: «قالت الأعراب آمنَّا، قُلْ لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم...» (سورة الحجرات 14).