ثمة جزء مني يتحدّر من منطقة صور، من الهضاب السمحاء المطلّة على أبيض المتوسط وزرقة الماء إذ تكون مرآة السماء. هناك عند التلال والسفوح، برفقة الرعاة والقطعان، تحت مطر صديق قرأت ما قرأت، وحفرت على المقعد الخشبي في الصف المدرسي وعلى جذوع الشجر أحرفاً أولى وأحلاماً مؤجلة، وهناك أيضاً سمعت حكايات وحكايات وقصصاً لم يكن فيها ليلى ولا ذئبها. كانت ليلى أخرى تفتن الناس في بلادي فيتناقلون أخبارها كما جاءت على لسان المجنون وفي قصائده التي تناهت إلينا بالتواتر قبل الكتاب. وكما كانت ليلى حاضرة في جلسات الشاي والسمر وفي حلقات الشتاء حول موقدة هرمة تبذل جهدها لتظل قصص نارها متّقدة متوهّجة، كانت إليسا حاضرة في الكتاب المدرسي وفي رحلتها الشهيرة من صور الى تونس هرباً من ظلم أخيها تقيم مدينة بمساحة جلد ثور اتسعت بالذكاء والفطنة لتكون قرطاج التي نحب ونهوى. دارت الأيام، ومرت الأيام، كبر الطفل الذي كان يأنس لحكايات التاريخ والجغرافيا، وتفتنه قصائد المجانين والعشاق قبل أن يصير واحداً منهم ويشتَد عوده الذي ظل لحسن الحظ، أخضر، على ارغم يباب الأيام. ومرَد خضرته ماء تلك الأيام الأولى بحكاياتها وينابيعها العصيّة على الجفاف. حين وقف الطفل الأربعيني على مسرح مدار قرطاج ينشد شعراً وحباً لتونس التي وقع في عشقها من النظرة الأولى، بل وقع فيها من قمرة الطائرة وهو يراقب أرضاً تقترب رويداً رويداً من مدار قلبه وعينيه فيسحره التماثل الشديد بين ما يرى وما يحفظ في ذاكرته وأرشيفه الكامن في الأعماق، حين وقف وقفته تلك، على خشبة مسرحٍ ساهم عن بعد في تكوين وعيه ووجدانه الثقافيين، لم يملك سوى أن يسترجع تلك العلاقة الحميمة التي تربط بلاده بهذي البلاد، وأن يستعيد حكاية جدّته التي مخرت عباب البحر والمجهول لتقيم مدينةًً أشبه بالقصيدة. عصافير العصارى تحوم فوق المارة والعشاق في شارع الحبيب بو رقيبة، الأسواق الشعبية العتيقة تلملم أشكالها وألوانها قبل حلول المساء ولونه الأوحد، جامع الزيتونة يسترخي كمحاربٍ تنفس الصعداء بعد طول قتال، وداعة صافية تلقي بظلالها على صفحات الماء، كأن الأبيض المتوسط هنا غيره هناك، حتى تخاله لبرهةٍ هرةً أليفة تتمطى على مهلٍ عند أقدام يابسة كسولة. الى المرسى وسيدي بو سعيد وبقيّة الأسماء الحسنى في كتاب الجمهورية الخضراء بلا كتاب، بياض موغل في بياضه، نصاعة تستدعي الشمس وتناديها أن تستريح قليلاً فلا تملك المستديرة الملتهبة إلا أن تتمهّل وتغادر على مضضٍ وحسرة، فأنى لها مثل هذا البياض الذي يعيد إليها أشعتها مجدولةً في ضفائر العاشقات وقصائد الشعراء، متراميةً في النغمات التي تتصاعد لا من الآلات الموسيقية بل من العازفين أنفسهم وهم ينقشون موسيقاهم في مسامع المدى. يا ألله، كأن البحر مكحلة و «سيدي بو سعيد» امرأة مغناج تغمس ريشتها في الماء لتكحل عينيها/ أبوابها وشبابيكها بالأزرق الفتّان. أزرق على أبيض، أبيض على أزرق، أزرق على أزرق، أبيضُ على أبيض، أبيض على أزرق على أبيض على أزرق على أبيض... بياض في متاهة البياض، بياض في حرية البياض، كأنها رقصة دراويش تقيمها اليابسة تحيةً لروح الماء. هل أكتب عن امرأة؟ هل أكتب عن مدينة؟ هل أكتب عن جسد؟ هل أكتب عن روح؟ كل ما هنا/ هناك يفتن ويغوي وينادي الى المنزلقات، الى الشفير الفتّاك والسعير الفردوسي. أهي غواية البرّ والبحر، واسترخاء اليابسة على بساط الماء. أهي بياض القلب في لهيب الجسد، وتناسل عروق الروح من جدَة تدعى صور الى حفيدةٍ اسمها قرطاج. أهي تونس الخضراء، البيضاء، الزرقاء، السمحاء، أكتبها وأقرأها في كتاب العروبة التي تظلّ عندي ناصعةً مهما اعتراها من شيب المحن واصفرار الأيام.