يُعرف الشاعر حسين علي يونس في الوسط الثقافي العراقي بحسين الصعلوك. شاعر حديث بقصيدة جديدة ، صعلوك لكنه لم يكتسب مناسك الصعلكة من الرثاثة ، من التشرد اليومي ، من لباس مهمل أو لحية طليقة ، بل اكتسبها جوهرياً من روح مهجورة ، من داخل متشكك ، من واقع يتشظى ، مملوء بالتناقضات والاحتراب العياني والبداهة المغلفة بالخوف واليأس والتمظهرات الرمادية التي تخلط الأبيض بالأسود. وحسين اضافة الى ذلك رجل موظف في دائرة الموسيقى، متزوج ولديه عائلة يهتمّ بها ويدبّر شؤونها اليومية ، لا يدخن ولا يشرب إلا في ما ندر ، ولكن حين تدعوه الى مأدبة ما ، فقد يلتهمها كلها من دون أن تدري ، ويحتسيها بخفة ولا يترك لديك انطباعاً بذلك . كان في عراق السبعينات شعراء صعاليك كثيرون ، ينتمون الى أجيال مختلفة ، منهم عبد الأمير الحصيري ، وهو شاعر كلاسيكي ، وحسين مردان وهو من الشعراء الرواد ، وجان دمو أحد رموز الستينات من القرن الماضي ، زائداً عقيل علي وعبد الحسن الشذر من جيل السبعينات ، لكن صفة الصعلوك لم يكتسبها أحد سوى حسين علي يونس ، العارف والمتتبع والمتخصص بملاحقة الكتاب الأدبي والفني والفكري أنّى كان مصدره ، أحياناً يختبر ذاكرته وذاكرته لا تخونه في هذا المجال ، ومن هنا عمله في أيام العطل والضائقات بائعاً للكتب في شارع المتنبي. مناسبة هذا التقديم هي صدور ديوان جديد للشاعر ، عن دار الجمل في بيروت بعنوان «خزائن الليل» محتوياً على قصائد كثيرة جمعتها قرابة المئتي صفحة. عند فتحنا هذه الخزائن، نعثر على قصائد ذات وهج شعري، قوامه سياق حداثي، يعتمد على تقديم الشذرة تارة، وتارة أخرى على تقديم البنيان السردي، أو النمط العنقودي المتعارف عليه في بناء القصيدة العربية الحديثة. ومن أبرز الخصائص التي تميز هذه القصيدة هي رشاقتها الواضحة التي تكتنف قوامها، لا نعوت كثيرة، لا إضافات، ولا فائض في التحميل الكنائي، فضلاً عن خلوها من الجهد البلاغي والتلوين الزخرفي وابتعادها كلياً من النبرة المتعالية الآتية من الطنين العروضي. حين نستكشف فضاء هذه الخزائن البراقة، نجد أنفسنا أمام عالم مختصر ومختزل في مساحة صغيرة، ليست مكتظة بالصور ومزدحمة بالأشياء، بل تعج بنفائس ملمومة على ضوء ناعم، حافل ببريق موح من خيوط إشارية، تحمل على رغم رقتها ونحافة سياقها اللغوي معنى دلالتها البرقية، دلالة جلية، غير ملتبسة كما نتبين في هذه القصيدة المسماة «محلة شعبية» حيث نقرأ: «تتخلل أزقتها شروخ المنازل التي غرسها الزمن، من خلال تهدّجاته وبروقه، وحين تشرق البنايات بطوابقها الرثة، يشع أمل، يجرفه العاملون الى سلة اليأس»، وكما هو واضح يلوح في هذه القصيدة النسق السردي، انه سرد مقنن، مختصر بمشهده الموحي القائم على ثلاثة أبيات شعرية. لا يحيد الشاعر عن هذا السبيل في مجمل قصائد الديوان، فهو يظل يلاحق مشهده المقتنص من مرئيات لا يجهد في العثور عليها. وها هو يقول في قصيدة تتحدث عن السماكين: «من أجل صيد الأسماك، يطيب لهم أن يعكّروا المياه بمجاذيفهم، لم يكونوا من أولئك الذين يمكننا أن نصادفهم في الأزقة التي تصرّ كالحشرة في رؤوس مخترقيها، في قلب المدينة هذي تتحرك عوالم لا يمكن نسيانها ابداً». إنها عوالم منتزعة من واقعها، عوالم حقيقية، ولهذا لا يمكن نسيانها أبداً، لاستبطانها الحسي المتجلي في وجود متحرك، وجود مفعم بالحياة، تتجاذبه ثلاثة أنساق، الزمن بمفهومه العدمي، ثم اليأس وحالاته السايكولوجية، والثالث هو الحب الذي يأتي كملاذ للشاعر لكي يحميه من غوائل العدم واليأس ومن افتراس اللاجدوى. إذاً وسط هذا الملاذ وداخل محرابه يبث الشاعر لواعجه ويفصح عن داخله ليغدو محمياً من الخارج، ليصنع بهذا معادله الجمالي والإنساني، ولهذا نراه يقول: «كنتُ مشتعلاً، وصراخي نما قرب عريشة شعرك، عندما انطفأ أمل العالم وغرق... غرقتُ في لجة اليأس وظل شعرك ينجب الليالي، لأنّ ليالي لا حصر لها زحفت الى صباحات وجهك». تتأثث قصيدة حسين علي يونس في ديوانه هذا من كلمات قليلة: شموس، صباحات، ظلام، ليل، أسى، يأس، حانة، بحر، مقهى، رصيف، منزل، صحو، بروق، غيوم، زهور وشوارع، هي كلمات تعبر أفقنا محلقة مثل طيارات من ورق ملون، كلمات تكاد أحياناً لا تقول شيئاً، لشدة نحولها اللغوي، كما جاء في قصيدة بصرية، لا تقول شيئاً البتة سوى الإيحاء، سوى الصمت والإشارة، مهداة الى الشاعر الراحل جان دمو، تبدأ القصيدة بإيراد تاريخ موت الشاعر 1998 لتليه أربعة سطور فارغة، حافلة بالنقاط الدالة على حالة الراحل الغائب.