لعبت عمليات الاغتيال السياسي دوراً كبيراً في تاريخ الامم، بحيث ان واحدة منها فجرت حرباً عالمية كالحرب العالمية الاولى. ففي 28 حزيران (يونيو) 1914، كان ولي عهد الاسرة الامبراطورية النمسوية الارشيدوق فرانز فرديناند يزور مدينة ساراييفو مع زوجته عندما تصدى لهما طالب صربي يدعى غافريلو برنسيب واغتالهما معاً. وهكذا تكون الرصاصتان اللتان اطلقهما شاب معارض، قد اشعلتا اشرس حرب عرفتها القارة الاوروبية. وربما كانت عملية اغتيال بطرس غالي باشا – 20 شباط (فبراير) 1910 – اول جريمة سياسية في مصر عبدت الطريق لحدوث سلسلة محاولات دموية حصدت عدداً كبيراً من الزعماء السياسيين. وقد اغتاله في حينه ابراهيم الورداني الذي قضت محكمة الجنايات بإعدامه. والقتيل كان جد بطرس بطرس غالي، الامين العام الاسبق للامم المتحدة. وفي 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1924، اغتال خمسة اشخاص السير لي ستاك، سردار الجيش المصري في عهد الانتداب البريطاني. وقوبل ذلك الحادث في حينه باعدام سبعة مصريين شاركوا في التخطيط والتنفيذ. وادت تلك العملية الى سقوط وزارة سعد زغلول وتعطيل دستور 1923. وفي 25 شباط (فبراير) 1945، اطلق النار احد الشبان على رئيس وزراء مصر احمد ماهر باشا، فأرداه قتيلاً. وكان من الطبيعي ان تثير تلك الحادثة عاصفة بين النواب لان عملية الاغتيال تمت تحت قبة البرلمان. وبعد مرور سنة تقريباً، في 5 كانون الثاني (يناير) 1946، قام شاب يدعى حسين توفيق، باغتيال وزير مالية مصر امين عثمان. وقد اتهم في حينه انور السادات بأنه كان في عداد المحرضين على عملية القتل. عقب هزيمة 1948 وصدور قرار تقسيم فلسطين، نشطت جماعة «الاخوان المسلمين» في مصر كرد فعل على تخاذل القوات المسلحة. واضطر رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي الى حلها ومصادرة اموالها. وانتقمت منه قيادة «الاخوان»، وارسلت له عنصراً يدعى عبدالمجيد حسن اغتاله امام مبنى وزارة الداخلية في القاهرة. واحدثت تلك الواقعة سلسلة اضطرابات فرضت على رئيس الوزراء الجديد ابراهيم باشا عبدالهادي، اعلان حالة الطوارئ وتطبيق الاحكام العرفية. واستغلت جماعة «الاخوان المسلمين» تلك الاجواء القاتمة لزيادة نشاطها الحزبي، بتوجيه من المرشد الاعلى الشيخ حسن البنا. وجاء في المؤلف الذي صدر في بيروت عن «دار الكتاب العربي»، ان الملك فاروق اوصى حرسه الخاص بتنفيذ عملية اغتيال الشيخ حسن البنا في 10 شباط (فبراير) 1949. ولم يسلم ضباط ثورة 1952 من حملات الانتقام وعمليات الاغتيال بحيث تعرض جمال عبدالناصر لمحاولة اغتيال سنة 1954، الامر الذي ساعده على تثبيث نفوذه وابعاد محمد نجيب. علماً بان عبدالناصر انتقد بقسوة اسلوب الاغتيالات لانه في رأيه، يزيد من تشدد الاتباع والمتعاطفين. والحل، وفق تصوره في «فلسفة الثورة» يكمن في خلق تيارات سياسية وطنية اكثر وعياً وتحرراً. ولكن هذا الحل النظري لم يوقف موجة الاغتيالات حتى في عهد انور السادات الذي شهد مقتل وزير الاوقاف الدكتور حسين الذهبي. وقد اجتاحت تلك الموجة الرئيس السادات نفسه يوم اغتاله خالد الاسلامبولي وهو يستعرض القوات المسلحة في احتفالات 6 تشرين الاول (اكتوبر) 1981. وقد كافأت جمهورية الثورة الاسلامية الايرانية القاتل، عندما اطلقت اسمه على اهم شوارع طهران. واللافت ان كلمة اغتيال Assassin باللغات الاجنبية، مشتقة من كلمة «حشاشين»، المنتسبين الى جمعية سرية حولها المؤرخون الى اسطورة بقيادة زعيمها حسن الصباح. مترجم «رباعيات عمر الخيام» الى الانكليزية ادوارد فيتزجيرالد، صنع من زعيم «الحشاشين» حسن الصباح شبه اسطورة. وقال انه حكم من «قلعة علموت» في جبال البرز بالقرب من بحر قزوين. وذكر ان الطريقة الجديدة التي ابتدعها الصباح قائمة على استخدام قوة صغيرة منظمة ومخلصة تكون قادرة على توجيه ضرابات فعالة الى عدو بالغ التفوق. ويجمع المؤرخون على ان وفاته كانت في عام 1124، وانه سعى الى زعزعة النظام السنّي بابتداعه الارهاب السياسي ضد قياداته. ذكرت هذه الخلفية التاريخية لاظهر عمق ارتباط كلمة «اغتيال» بتاريخ هذه المنطقة. ذلك انها كانت الطريقة المتبعة للتخلص من الاعداء الاقوياء. ولكن التجارب اثبتت ان التعصب الاعمى – للافراد او الفئات – ليس وليد الصدفة، وانما هو امتداد للنزعات الثقافية التي تربى في كنفها. يقول المفكرون الفرنسيون من امثال روسو وفولتير، ان المظالم التي تبقى من دون عقاب تغذي الحقد، وتقوي نزعة الارهاب المضاد الذي يستخدمه الضعيف سلاحاً بعد استنفاد جميع الوسائل القانونية في الدفاع عن حقه المشروع. ومع ان سلاح الاغتيال لم يكن منتشراً في لبنان قبل حرب 1975، الا انه اتسع منذ ذلك الحين بحيث تحول الى مؤسسة انتقام لعمليات متواصلة. وتبين من مراجعة سجل الاغتيالات السياسية في لبنان، ان محمد العبود كان اول ضحية من ضحايا هذه الارتكابات. وقد اظهرت التحقيقات يومها ان القاتل كان ينتمي الى انصار زعيم منطقة عكار سليمان العلي، وانه اقدم على فعلته بدافع من اخلاصه وولائه. وكان الثري محمد العبود يشغل في ذلك الوقت منصب وزير المالية في حكومة رياض الصلح الرابعة. وفي عام 1951 اغتيل الزعيم رياض الصلح في الاردن. منذ حادثة «بوسطة عين الرمانة» والخلاف اللبناني – الفلسطيني، سقط لبنان في حضن سورية بتشجيع اميركي وصمت عربي. وعلى امتداد 29 سنة، نجحت دمشق في استمالة نصف مواطنيه، واخضاع النصف الآخر للانتقام والاقصاء. ولما انطلق قطار المصالحة الوطنية في الطائف عام 1989، كان لبنان قد فقد 210 من خيرة رجالاته من طريق الاغتيالات والتصفيات. كما فقد 120 الفاً من ابنائه، في حين هرب مليون ونصف مليون نسمة الى الخارج، الامر الذي افرغ البلاد من كفاءاتها وشبانها ومستقبلها الواعد. من وسط ركام المنازل المهدمة والاسواق المهجورة، اطل رفيق الحريري كمنقذ يمكن ان يرمم ويصلح ما افسده الاقتتال الطويل. وقبل ان يحقق المهمة التي اختير من اجلها، قامت جهة مجهولة بنسف موكبه قرب فندق «السان جورج»، منهية بذلك التفجير الرهيب، ظاهرة سياسية لم يعرفها لبنان منذ وقت طويل. وهكذا حل يوم 14 شباط (فبراير) 2005، في سجلات الوقائع اللبنانية كيوم اسود، بقي الوطن الصغير اسير رعبه وغموضه. وبسبب تنوع الادوار التي كان يؤديها رفيق الحريري، انطلق البحث عن القاتل الحقيقي عبر السؤال عن المستفيد الاول من وراء عملية تغييبه. وهذا ما كانت محكمة الجنايات في عهد الامبراطورية الرومانية تعتمده كمبدأ لاصدار الحكم النهائي. وفي ضوء النتائج المحسوبة يكون حجم القصاص. وكان من الصعب جداً على طارحي هذا السؤال الحصول على جواب شاف بسبب كثرة المستفيدين: الولاياتالمتحدة تعتبر مستفيدة لان اغتيال الحريري سيعجّل في اخراج القوات السورية (كما حصل) ويعيد للدولة قرارها المستقل في التعاون مع واشنطن. ايران تعتبر مستفيدة لانها قضت على صاحب مشروع استعادة دور السنّة في لبنان وتعميق تعاونه مع السعودية ومصر. وسورية تعتبر مستفيدة لان الحريري نجح بواسطة ثروته في استمالة اعمدة نظامها من السنّة، زائد غازي كنعان المؤتمن على كل اسرار الدولة السورية. واسرائيل تعتبر مستفيدة لان الحريري وظف علاقاته القوية مع واشنطن وموسكو وباريس وسائر عواصم العالم من اجل دعم القومية العربية والدفاع عن مواقف سورية و «حزب الله». و «حزب الله» يعتبر مستفيداً لان اغتيال الحريري ازال من دربه عائقاً سياسياً صلباً. والمؤسسات المصرفية والاقتصادية تعتبر مستفيدة لان ثروة الحريري كانت تمثل شبكة مصالح ضخمة يصعب قطع خيوطها. والمارونية السياسية تعتبر مستفيدة لانها كانت تتهم الحريري بالعمل على «اسلمة» البلد». ومع ان كل المذكورين اعربوا عن استنكارهم للجريمة المروعة، الا ان ذلك لم يمنع السلطات اللبنانية من مطالبة مجلس الامن بانشاء محكمة خاصة. والسبب ان المحاكم اللبنانية المعنية لم تصدر حكماً واحداً خلال 29 سنة ضد الذين اغتالوا 210 شخصيات سياسية ودينية وعسكرية، علماً ان المحرضين والفاعلين كانوا معروفين من قبل الجميع. وهكذا انشئت المحكمة الدولية بناء على طلب لبنان، وبموجب قرار صادر عن مجلس الامن الدولي (القرار 1757) تحت الفصل السابع الملزم للنظر في جريمة اغتيال الحريري و 22 شخصاً آخرين. وبموجب الاجراءات القانونية، وضع المدعي العام دانيال بلمار قراراً ظنياً قام بتعديله مرتين قبل تسليمه الى قاضي الاجراءات التمهيدية دانيال فرانسين. وسلم وفد من المحكمة الاسبوع الماضي، الى السلطات اللبنانية مذكرات توقيف في حق اربعة لبنانيين مع نص القرار. وظهر الامين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله، عبر قناة «المنار» ليدافع عن المتهمين الاربعة المنتمين الى الحزب، ويهاجم المحكمة ويتهمها بأنها اداة في ايدي اسرائيل والولاياتالمتحدة. واعتبر نصرالله ان من الظلم تحميل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ما ليس بمقدور سعد الحريري ان يحمله. وعليه رأى ان استبعاد الفتنة الطائفية يقتضي الغاء المحكمة المنحازة، واستبدالها بمحكمة وطنية. عقب اغتيال الرئيس جون كنيدي استندت المحكمة الى عناصر مختلفة بحثاً عن الحقيقة. وذكرت ان الاتحاد السوفياتي وكوبا والمافيا ونائب الرئيس جونسون والمنفذ لي هارفي اوزوالد واسرائيل، جمعيهم على قائمة المستفيدين. وأدلت ارملته جاكلين بدلوها فكتبت رسالة سرية الى الاستخبارات المركزية، وطلبت الا تفتح قبل وفاتها، لأنها ستذكر فيها اسم القاتل الحقيقي. ولما توفيت جاكلين، وانتظر الاميركيون اعلان السر الغامض، اطل رئيس الاستخبارات ليعتذر من الجمهور عن ابقاء السر سراً، لان ما كشفته ارملة الرئيس يدخل في خانة الامن القومي الاميركي. وهكذا ضاعت الحقيقة! * كاتب وصحافي لبناني