لا جديد في إنكار السيد حسن نصرالله مسؤولية رفاقه في «حزب الله» المتهمين في جريمة اغتيال رفيق الحريري. لا جديد كذلك في إبلاغه من يعنيهم الأمر أن أحداً لن يستطيع الوصول إلى هؤلاء ولو بعد 300 سنة. ومن السذاجة الاعتقاد أن المدعي العام دانيال بلمار كان يتوقع أنه، بمجرد الإعلان عن مذكرات التوقيف، سيتوجه المتهمون الأربعة على اول طائرة مقلعة إلى لاهاي. ليس العدل هو صاحب الكلمة الفصل هنا، بل هي القوة. القوة التي تمنع يد القانون من الوصول إلى المتّهم، والقوة التي تتيح للمتّهَم أن يتحول إلى متّهِم للباحثين عن تطبيق القانون بأنهم مسيّسون وعملاء ومتآمرون على المقاومة. لا تختلف المحكمة الخاصة في لبنان من هذه الناحية، ولا الحملة على لائحة اتهاماتها، عمّا واجهته المحاكم الجنائية الدولية الأخرى. في صربيا وكمبوديا ورواندا، وقبلها في قضية لوكربي، والآن مع ملاحقة الرئيس السوداني والمسؤولين عن جرائم النظام الليبي ضد معارضيه، تعرض القضاء الدولي لحملات اتهام بالتسييس، وبأن هناك مؤامرة دولية على النظام الذي يوجه الادعاء التهم إليه أو إلى مسؤولين فيه. وغالباً ما يستقوي هذا النظام على المحاكم والقضاة بقوته وبالحماية الخارجية المتوافرة له، فيمتنع عن التعامل مع الاتهامات والملاحقات، ثم يستسلم للقضاء في فترة ضعفه، أو عند حاجته للانضمام إلى غطاء الشرعية الدولية من جديد، وهو ما حصل تكراراً في نواحٍ مختلفة من العالم، آخرها ما نشهده من محاكمات للمجرمين الصرب في حروب يوغوسلافيا السابقة. في الحالة اللبنانية، نحن الآن أمام مشهد اكثر تعقيداً. فالدولة اللبنانية ليست هي المتهمة، كما كانت الحال بالنسبة إلى حكومة بلغراد مثلاً أو حتى إلى النظام الليبي في قضية لوكربي وفي جرائمه الحالية. المتهمون هم عناصر، بينهم قادة بارزون، في حزب هو الأكثر نفوذاً على الساحة اللبنانية، فضلاً عن كونه الآن جزءاً أساسياً من آلية اتخاذ القرار السياسي، من خلال حكومة نجيب ميقاتي. لكن الدولة اللبنانية هي المسؤولة عن تنفيذ مذكرات التوقيف الدولية، والمسؤولة عن التعاون مع المحكمة، بموجب الفصل السابع الملزِم من ميثاق الأممالمتحدة، وهو ما يعني أنها يمكن أن تتحول، هي أيضاً، إلى متّهمة، إذا وجد مجلس الأمن الدولي أن تعاطيها مع الادعاء والمحكمة الدولية هو تعاون ناقص أو مشكوك في جديته. في وجه اتهامات أمين عام «حزب الله» للمحكمة الدولية وطعونه في صدقيتها ونزاهتها، لم يجد بلمار في رده إلا إعادة التأكيد على أن المحققين العاملين معه يتصرفون باستقلالية وبحسن نية ولا يبحثون إلا عن الحقيقة، وأن نتائج التحقيق لا تعتمد إلا على الحقائق والأدلة ذات الصدقية، وتذكير المتهمين والمشكّكين بأن المكان المناسب للطعن في التحقيق أو في الأدلة هو أمام المحكمة وليس عبر وسائل الإعلام. وهو الأمر نفسه الذي أعاد تأكيده كذلك رئيس مكتب الدفاع فرنسوا رو الذي دعا المتهمين الأربعة إلى الاتصال به هاتفياً أو زيارته في مكتبه (!)، من دون أن ينسى تذكيرهم بأنهم اصبحوا الآن، بالمفهوم القانوني، «هاربين من وجه العدالة الدولية». قد يصح السؤال: هل بلغت «سذاجة» هؤلاء القضاة هذا الحد؟ وهل يتوقعون فعلاً أن يمثل أمام محكمتهم أربعة رجال يلاحِق بعضهم عدد غير قليل من دول العالم، من دون العثور لهم على اثر؟ ليست السذاجة هي ما يحرك القضاء الدولي. بل هو الاعتماد على أن سلاح القانون هو الذي ينتصر في النهاية، لأن عمر الأسلحة الأخرى هو رهن الظروف التي فرضتها. كل التجارب السابقة مع المحاكم في التاريخ البعيد والقريب تؤكد ذلك، وتجربة المحكمة الخاصة بلبنان ليست استثناء. قد يستقوي المتّهمون على العدل إلى حين، لكن الاتهامات ستبقى، ولن يحرّرهم حزب أو طائفة أو عائلة، بل المحامي والقضاء فقط. «انه وقت الدفاع»، كما نصح فرنسوا رو المتهمين في جريمة اغتيال رفيق الحريري.