قد يندهشُ كثيرون عندما يعرفون أن كبارَ زعماءِ الثورة المصرية في سنة 1337ه/ 1919م: سعد باشا زغلول، وعلي باشا شعراوي، وعبد العزيز باشا فهمي؛ كانوا من كبار مؤسسي الأوقاف الخيرية طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية؛ وأن كلاً منهم قام قرب نهاية حياته بوقف أملاكه جميعها للإنفاق على أغراض أهلية وخيرية ومؤسسات ذات منافع عمومية. ومن أسباب «الدهشة» هنا: أن أولئك الثلاثةَ كانوا من كبار «النخبة الليبرالية الحديثة» التي عادة ما توصف في بلادنا بأنها «نخبة علمانية»، أو «نخبة تغريبية» لا تحفلُ بموروثات التراث الإسلامي وأنظمته؛ ومن ثم فمن غير المتوقع أن يقوم أيٌ منهم ب «وقف» أملاكه؛ وبخاصة أن بعض دعاة التغريب في تلك الفترة مثل: سلامة موسى، وعزيز خانكي، ومحمد علي عَلُّوبَة باشا كانوا يصِفون الوقف بأنه «نظام ظالم وسبب من أسباب التأخر». «علي شعراوي» كان أول الزعماء الثلاثة مبادرةً إلى وقف أملاكه سنة 1336ه/ 1918م؛ أي قبل ثورة 1919م بسنة واحدة. وشعراوي من أسرة عريقة من كبار الملاك بصعيد مصر، وقد تزوج من ابنة عمه «هدى شعراوي» الزعيمة الشهيرة (وعثرتُ على وقفيتها الخيرية أيضاً، ووجدتُ أنها خصصتها للإنفاق على «نقابة المحامين الأهلية» وعلى أغراض خيرية أخرى تحتاج إلى مقالة منفردة). وقد ساهم شعراوي في تأسيس الوفد المصري وهو أعرق الأحزاب الليبرالية المصرية. وختم حياته بوقف أملاكه من الأراضي الزراعية بموجب «حجة» مؤرخة في 22 شعبان 1336ه/ أول حزيران (يونيه) 1918م ومحررة أمام محكمة مصر الشرعية (سجلات وزارة الأوقاف رقم 33/مصر مسلسلة 3689). وحجة وقف علي شعراوي مقسمة تقسيماً دقيقاً، ومصاغة في قالب قانوني «أبواب وفصول ومواد»؛ إذ تحتوي على ستة أبواب، بكل باب ثلاثة أو أربعة فصول، وكل فصل يشتمل على مواد عدة، ومجموع المواد كلها تسعون مادة. ومثل هذه الصياغة نادرة في حجج الأوقاف إلى نهاية الربع الأول من القرن العشرين وتشبهها في صياغتها وترتيبها إلى حد ما حجتا سعد زغلول وعبد العزيز فهمي. وفق بيانات هذه الوثيقة؛ بلغت الأراضي التي وقفها 7126 فداناً، تقع في محافظتي المنيا وأسيوط. ومساحة أخرى قدرها فدان واحد عبارة عن أرضٍ فضاء بمدينة المنيا أيضاً خصصها لبناء معهد أزهري، ومسجد، ومدفن له ولأسرته. ومن الشروط التي وضعها لصرف ريع هذه الأراضي: أن يصرف أربعة أخماسه على زوجته «هدى شعراوي»، وعلى أبنائه وذرياتهم وقفاً أهلياً يؤول بعدَ انقراضهم إلى «جهات البر والمنافع العامة». أما ريع «الخُمس» المتبقي وهو مساحة قدرها 1562 فداناً فاشترط أن يُصرف منه 1000 جنيه على 100 يتيم من الفقراء، ويكون صرفُها لهم في رمضان سنوياً، ويصرف منه كذلك على عدد من المساجد؛ «حتى تظلَّ على الدوام عامرة، والشعائر الإسلامية مقامةً فيها»، ومنها مسجده في مدينة المنيا الذي لا يزال عامراً، ولا تزال عمارته عثمانية الطراز محتفظة ببهائها. وملحقٌ بهذا المسجد مدفن علي شعراوي، ومكتوب على جانبي باب الدخول باللون الأبيض على بلاطات خزفية زرقاء:(السلامُ عليكم دارَ قوم المؤمنين). واشترط علي شعراوي أيضاً أن يتمَّ «إنشاءُ معهد ديني بمدينة المنيا على غرار الأزهر الشريف بمصر». وقد وضع في حجة الوقف قائمةً بمواد الدراسة بمعهده شملت: «العلوم الدينية وآلاتها، والعلوم الرياضية، والأدبية، والتاريخية، وعلم تقويم البلدان المعروف بعلم الجغرافيا، والخط». كما نص على أن يضاف إلى ذلك «إيجادُ من يُعلِّمَ ومن يتَعَلَّمُ القرآنَ الكريمَ على الدوام بالمعهد المذكور حفظًا وتجويداً، وعلم القراءات السبع المشهورة». ونصَّ على تمويل نفقات ما يحتاج إليه المعهد من ريع الوقف، بما في ذلك «مرتبات العلماء والموظفين به، وإعداد كل ما يلزم للتعليم فيه وفرشه وإضاءته... بحيث يبقى مدرسة للعلوم - المنَّوه عنها جميعاً -على الدوام والاستمرار، فإن تعذَّرَ ذلك؛ صُرف الريع المخصص له في إنشاء مستشفيات للمرضى، وملاجئ للعجزة واليتامى، مع تعليم هؤلاء ما يفيدهم في دينهم ودنياهم». توفي علي شعراوي سنة 1922م، وتأخر إنشاءُ المعهد الذي أوصى به إلى سنة 1947م، وتم الفراغ من بنائه سنة 1950، وبلغت جملةُ مصروفات البناء من ريع الوقف 11.783جنيه و106 مليمات، وصار تابعًا لإدارة المعاهد الأزهرية، وله ريع سنوي من الوقفية قدره 4000 جنيه، وظل هذا المبلغ يظهر في موازنة المعاهد إلى سنة 1962/1963م. ولا يزال هذا المعهد قائماً بمهمته لليوم. ومغزى ذلك: أن شعرواي وهو الليبرالي العتيد أراد الإسهام في تعزيز الأصول الثقافية الإسلامية للهوية المصرية التي كانت قد تعرضت للاستلاب الأجنبي، وأن ليبراليته لم تخرجه من إيمانه بالإسلام وبجدارة نظمه الاجتماعية والاقتصادية والقانونية على مواجهة مشكلات الواقع المعاصر. وأعتقدُ أن هذه الدلالة يشاركه فيها كل سعد باشا، وعبد العزيز باشا فهمي. أما سعد باشا فقد قرر سنة 1926م وقفَ جميع أملاكه. وسعد ابن أسرة فلاحية من قرية إبيانة بمحافظة كفر الشيخ (جنوب شرقي الإسكندرية). تلقى تعليمه في الكُتَّاب، والتحق بالأزهر عام 1873م، وتعلم على يد الأفغاني ومحمد عبده، وأسهم في تأسيس الجامعة المصرية. وفي خضم ثورة الشعب ضد الإنكليز آلت إليه زعامة ثورة 1919م، وأسس مع زملائه حزب الوفد الليبرالي. وعلى رغم اتهام خصومه له بعدم الاكتراث بالدين وتعاليمه؛ إلا أنه كان مدافعاً صلباً عن «بقاء نظام الوقف وإصلاحه»، عندما ظهرتْ مطالبات بإلغائه في مجلس النواب المصري. وتصدى لعبد الحميد عبد الحق صاحب دعوى الإلغاء في إحدى جلسات المجلس في ايلول( سبتمبر) سنة 1926م. وكان سعد قد أنشأ وقفيته في آذار( مارس) من تلك السنة نفسها؛ وحرر لها حجة مؤرخة في 8 شعبان 1344ه/21/2/1926م أمام محكمة مصر الشرعية. وختم حياته بهذا العمل الخيري؛ إذ توفي يوم 23 آب (أغسطس) 1927م. اشتملَ وقفُ زعيم الأمة على:1 «منزله» المشهور ب «بيت الأمة» وهو حالياً مزار سياحي بوسط القاهرة/حي السيدة زينب 2 منزله بمسقط رأسه «قرية إبيانه».3 مساحة قدرها 40 فداناً و4 قراريط، و10 أسهم من الأراضي الزراعية التي كان يملكها بناحية «مسجد وصيف» بمركز زفتى (وسط الدلتا). وورد في حجة الوقف أنه أنشأه: «على نفسه ينتفع به وبما شاء منه بسائر وجوه انتفاعات الوقف الشرعية مدة حياته؛ ثم يكون «بيت الأمة» من بعده لتنتفع به زوجته «صفية هانم»، ويكون منزلُه بقرية «إبيانه» لينتفع به الفقراء من أولاد أخوته وذريتهم، وفي علاج المرضى منهم»، ثم يؤول ريع الوقف كله بعد انقراضهم إلى «الجمعية الخيرية الإسلامية» لتصرفه في شؤون التعليم بمعرفتها، فإن لم تكن موجودة، صُرف ريع ذلك كله في تعليم أولاد الفقراء من المسلمين بالديار المصرية».(سجلات وزارة الأوقاف سجل رقم 52/مصر مسلسلة 5928). أدخلَ سعد باشا تجديداً ملفتاً على إدارة الوقف؛ إذ نصَّ على أن يكونَ اختيارُ ناظر الوقف وعزله: «بأغلبية أصوات المستحقين في ريع الوقف»، ومِثلُ هذا الشرط لم يكن معروفاً في الطريقة التقليدية لاختيار الناظر، وهي «التعيينُ» مع صعوبة العزل. ومما ورد بحجة وقفه: «أن تكون النظارة لمن تختاره الأغلبية المطلقة من المستحقين في الريع، وأنه إذا اجتمعت أصوات ثلاثة أرباع المستحقين على المطالبة باستبدال الناظر بغيره كان معزولاً ...، ويتم اختيارُ غيره بالطريقة المشار إليها». وقد وجدتُ مثل هذا التجديد في وثائق أوقاف عدد آخر من الليبراليين في العهد الملكي، منها مثلاً وقفيات رؤساء الوزراء: محمد نسيم باشا، وعلي ماهر باشا، ويحيى إبراهيم باشا. ولا تزال مستندات الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة تظهرُ فيها إلى اليوم بياناتٌ تشير إلى وقف سعد زغلول الذي اشترط أيلولته للجمعية كي تنفقه في التعليم. وأما عبد العزيز باشا فهمي؛ فقد قرر في سنة 1936م؛ أي قبل وفاته بخمسة عشر عاماً (توفي 1951م) وقفَ مساحةٍ قدرُها 18 فداناً بزمام مدينة «شبين الكوم» بمحافظة المنوفية في وسط الدلتا. كان عبد العزيز فهمي أزهري التكوين مثل سعد زغلول؛ إذ تلقى تعليمه الأولي في قريته، وحفظ القرآن، والتحق بجامع السيد البدوي بطنطا، ومنه إلى الأزهر، وتعلم على يد مشايخه، ونال حظاً من التعليم المدني حتى حصل على ليسانس الحقوق في سنة 1890م. ترأس حزب الأحرار الدستوريين (الليبرالي أيضاً) لمدةٍ، ودافع عن علي عبد الرازق وكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، ثم صار رئيساً لمحكمة الاستئناف سنة 1926م، وظل فيها حتى سنة 1930م، ثم صار رئيساً لمحكمة النقض إلى آخر حياته القضائية. وأصبح عضواً في مجمع اللغة العربية سنة 1940م. وله مؤلفات أدبية وترجمات قانونية منها: ترجمته عن الفرنسية ل «مدونة جوستنيان» الشهيرة في الفقه الروماني. وهو الذي دعا في رسالةٍ له إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية. وقد قوبلت دعوته باستنكار شديد داخل مجمع اللغة العربية وخارجه حتى تراجع عنها. على تلك الخلفية «الليبرالية» المثيرة للجدل، حرر عبد العزيز فهمي حجة وقفيته أمام محكمة شبين الكوم الشرعية، بتاريخ 27 رمضان1355ه/11/12/1936م، واشترط فيها إنفاق الريع أولاً: على ثلاثة مساجد هي: مسجد قرية ميت مسعود، ومسجد قرية الراهب، ومسجد كفر المصيلحة (مسقط رأس الرئيس الأسبق حسني مبارك)، واشترط ثانياً :»شراء أقمشة ولحوم، يتم توزيعها على الفقراءِ والعجزة والأرامل والأيتام بتلك القرى»، واشترط ثالثاً أن «تُعطى عشرون جنيهاً مصرياً سنوياً مكافأة لمن يحصلون من أهل قرية «كفر المصيلحة» على الشهادة النهائية من أية كلية من كليات الجامعة المصرية». وكان هذا تشجيعاً على العلم، وتجديداً أيضاً في مصارف الوقف بلفت الأنظار إلى أهمية التعليم الجامعي. وأكد أنه: «إن لم يوجد في سنة من السنين من يصدقُ عليهم هذا الشرط فإن المبلغ المذكور يصرف في سبيل الإعانة على تعليم أهل كفر المصيلحة» (سجلات وزارة الأوقاف سجل 74/بحري مسلسلة 13768). وقد ظلت كشوف حسابات وقفيته تظهر فيها بنودُ صرف ريع الوقف حتى سنة 1952م. وفي نهاية تسعينات القرن الماضي اطلعتُ بنفسي على تلك الكشوف المحفوظة في «ملف محاسبة رقم 2345 بأرشيف قسم المحاسبة بوزارة الأوقاف»، ومما جاء في كشف حساب سنة 1952م أنه تم صرف «مبلغ خمسة جنيهات وسبعمئة وأربعين مليماً ليد أمين صندوق جمعية البر بالفقراء لمشترى أقمشة للأرامل والفقراء بناحية قرية الراهب في رمضان سنة 1371ه قبيل عيد الفطر المبارك». لم يكن سلوك زعماء ثورة 1919م بوقفِ أملاكهم على هذا النحو خارجاً عن مألوف سلوك الفئات المحافظة من المصريين حتى منتصف القرن العشرين تقريباً. ولكن غير المألوف، وغير المتوقع هو: أن تسلكَ هذا السلوكَ شخصياتٌ من طراز الزعماء الثلاثة الذين طالما وُصفوا بأنهم دعاة للتغريب والتبعية الثقافية. فهل كانت مبادراتهم الوقفية تعبيراً من تعبيرات «ازدواجية» الشخصية المصرية؟ أم كانت تعبيراً عن إيمان حقيقي بنظام الوقف الإسلامي؟. أم كانت استجابةً لضغوط عائلية و «عادات اجتماعية» درج عليها كثيرون من أبناء مجتمعات أمتنا الإسلامية؟. وليكن لكل منهم ماله وما عليه، ولكن من دون الانتباه إلى وقفياتهم، وإلى مثل هذه الأسئلة؛ فإن أبواباً للبحث في سيرتهم وأدوارهم في تاريخنا الحديث والمعاصر ستظل موصدة.