تطورت المؤسسة التعليمية في الإسلام عبر الوقف، بدءاً بالمسجد، ثم مجمع المسجد، ثم المدرسة وما شابهها من معاهد تعليمية. وأصبحت دمشقوبغداد والحجاز ومصر ومكة المكرمةوالمدينةالمنورة هي مراكز الحضارة الإسلامية الأولى. ونشط الوقف وتنوع عبر (المدارس والمعاهد والجامعات) في عصور الزنكيين، والأيوبيين، والمماليك، والعثمانيين. ويذكر ابن بطوطة من خلال ترحاله وسيره في بلاد العرب أن العشرات من المدارس ذات المستوى الابتدائي والجامعي كانت قائمة على أموال الوقف، وأن الأموال الموقوفة قد فاضت على الطلبة المنتسبين لها. وغدت ميزانية الأوقاف في كثير من الأوقات تنافس ميزانية السلطة الحاكمة أو مؤسسة الخلافة، بل وصل الأمر إلى أن تقوم مؤسسة الخلافة بالاقتراض من خزينة الوقف. كان للأمراء المسلمين اليد الطولى في إنشاء المدارس والمراكز العلمية كصلاح الدين الأيوبي الذي أوقف في مصر الكثير من الأراضي الزراعية والمباني والعقارات للمدارس ودور الكتب العلمية، حتى امتلأت جميع المدن التي تحت سلطانه بالمدارس. كذلك فعل نظام الملك الوزير السلجوقي الذي ملأ بلاد العراق وخراسان بالمدارس، حتى قيل أن له في كل مدينة بالعراق وخراسان مدرسة. وقام بدر بن حَسْنَوَيَه الكردي الذي استلم الولاية بعد ولاية أبيه ببناء ثلاثة آلاف مجمع للمساجد مع خاناتها، وكانت تقدم في هذه الخانات كل الخدمات للطلبة، من طعام وشراب ومسكن. ولعل المدرسة المستنصرية التي أنشأها الخليفة العباسي المستنصر بالله ببغداد, واستغرق بناؤها قرابة ست سنوات، أول طابع لمؤسسة جامعية إسلامية قائمة على مال الوقف. ومن الأمثلة كذلك وقف الأمير نور الدين الشهيد في بلاد الشام وحدها لأربعة عشر معهداً. وبلغ عدد طلاب المدرسة النظامية في بغداد ستة آلاف طالب, كلهم يدرسون مجاناً بريع الوقف. وكانت بعض المدارس الموقوفة كبيرة وفسيحة جداً بحيث أن الشيخ يحتاج إلى أن يركب حماراً ليتردد بين طلابه وليشرف على شؤونهم . وما زال جامع الأزهر الذي بني عام 359ه، القلعة الشامخة عبر التاريخ كميدان للعلم والمعرفة، وبجامعته التي خرج منها عشرات الآلاف من العلماء والطلبة. وبنيت بأموال الوقف كليات الطب الشهيرة مثل (كلية طب دار الشفاء) التي أنشئت سنة 875ه. ومن أبرز المكتبات الوقفية في تاريخنا الإسلامي، مكتبة (بنو عمار)، في طرابلس بالشام، إذ كان بها 180 ناسخاً يتناوبون بالعمل ليل نهار، وبلغ عدد كتبها ثلاثة ملايين كتاب. ويُرْجِعُ بعض الباحثين إلى أن الوقف على المكتبات وخزائن الكتب في الحضارة الإسلامية هو أساس ما عُرف لاحقاً في أوروبا بنظام الترست (Trust). كان الوقف بصورة عامة سمة بارزة للأمة الإسلامية قديماً وحديثاً، ولما أراد محمد علي باشا مسح الأراضي المصرية ليعرف مساحتها، تبين له أن مساحة الأراضي الوقفية تبلغ حوالي 600 ألف فدان من أصل مليوني فدان . وأما الأميرة فاطمة إسماعيل التي توفيت عام 1920م في مصر فقد أوقفت 6 أفدنة لإقامة جامعة القاهرة، وأوقفت 661 فدانًا من أجود الأراضي الزراعية بمديرية الدقهلية، من ضمن 3357 فدانا خصصتها للبر والإحسان وجعلت للجامعة من ريعها وقامت بعرض مجوهراتها للبيع وذلك لتحمل تكاليف بناء الجامعة. وشاركت الأميرة فاطمة في وضع حجر الأساس للجامعة. وسجل التاريخ أن ثلُث أراضي الدولة العثمانية تقريباً كانت وقفاً على وجوه البر والخير. ومما يذكره التاريخ أيضاً أن السكة الحديدية التي مُدَّت من اسطنبول إلى المدينةالمنورة لتسهيل الحج والعمرة ولخدمة المسلمين كانت من مال الوقف، بل وُقِف معها الأراضي المجاورة لها من الجانبين، من كل جانب مائة متر. ويوجد في عصرنا الحالي في تركيا قرابة (185) جامعة، منها (82) جامعة وقفية، وفي اسطنبول وحدها 33 جامعة وقفية. وأما وقف جامع القَرويين في المغرب فقد كان يُنافِس في عوائده ميزانيةَ الدولة نفسِها في القرن السابع الهجري. وقام المحسنون السابقون في تونس بوقف الأراضي الممتدة على الشواطئ التونسية، ووقفوا معها ما تشتمل عليه من ثروة سمكية. وبلغت الأوقاف الإسلامية في فلسطين 17 في المئة من الأرض. وفي المملكة العربية السعودية انتشرت المدارس والمعاهد والجامعات الوقفية الحكومية والأهلية، ومن أقدمها مدارس الفلاح، والمدارس الصَوْلَتِيَّة بمكة المكرمة وجُدَّة. وبعض الجامعات السعودية جُعِل فيها بعضُ هذه الأوقاف تحت أسماء "الكراسي" العلمية والبحثية. ومن الأوقاف الأهلية وقف (كليةُ الدراسات الإسلامية والعربية) في دُبي، و(المعهدُ العالي لعلوم الشريعة) بالجزائر، و(المدرسةُ الكَلْتاوية) و(المدرسةُ الشَّعبانية) في سوريا، و(كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية) في بيروت، و(الجامعة الإسلامية) التي أُنشئت في هولندا عام 1998م… وغيرها. وتأتي أوقاف جامعة الملك سعود في المملكة العربية السعودية كبرنامج رائد في دعم التعليم، من خلال بناء 11 برجاً فندقياً، على مساحة 180 ألف متر مربع، وبمحفظة استثمارية عقارية بلغت 4 مليار ريال سعودي. واعتمدت الكثير من الجامعات السعودية على مبدأ الوقف وبركته، كجامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن والتي بلغت أوقافها ملياري ريال سعودي، والوقف العلمي بجامعة الملك عبدالعزيز، وأوقاف الجامعة الإسلامية بالمدينةالمنورة. وغيرها من الأوقاف التي أشرق بها تاريخنا الإسلامي المجيد، وظهر أثرها في صناعة النهضة الحضارية للأمة. منصور جبر [email protected]