تزخر متاحف الآثار والفنون الجميلة بكثير من المقتنيات التي تم جمعها من المؤسسات الوقفية الموروثة من أزمنة الحضارة الإسلامية المتعاقبة. فمتاحف الفنون الإسلامية التي تختال بها أشهر حواضر العالم الإسلامي تدين للأوقاف بكثير من «الأوابد» الأثرية، والتحف الفنية الجميلة. وهذا ما يشهد به مثلاً متحف الفن الإسلامي في القاهرة، وهو أقدم المتاحف الإسلامية وأعرقها عالمياً، والمتحف الوطني في دمشق، والمتحف العراقي في بغداد، ومتحف الفنون الإسلامية والتركية في إسطنبول، والمتحف الوطني في باردو في تونس، ومتحف الفنون الإسلامية في مراكش، ومتحف الفن الإسلامي في كوالالمبور، إلى جانب ما نشأ من متاحف إسلامية حديثة في بعض بلدان الخليج العربي. وبما أن متحف الفن الإسلامي في القاهرة هو الأقدم والأكبر والأكثر ثراءً بالمقتنيات الوقفية، فمن المهم معرفة قصة نشأته، ومقاصد تأسيسه، والأطر القانونية التي تحكم عمله، وتحدد رسالته الحضارية من خلال تلك الموروثات من الفنون الجميلة الوقفية، والتاريخية عموماً. لقد تنبهت الإدارة الحكومية المصرية الحديثة منذ عهد محمد علي إلى أهمية المؤسسات الوقفية الموروثة من العهود السابقة، باعتبارها مصدراً من مصادر تكوين الثروة الأثرية والفنية بصفة عامة. وحفظت لنا سجلات ووثائق تلك الفترة وقائع الاهتمام الحكومي الرسمي بالآثار الوقفية بوجه خاص. ومن ذلك أنه حدث في سنة 1242ه- 1826م أن تقدم بعض الباحثين الإنكليز عن الآثار بطلب إلى محمد علي باشا للحصول على إذن منه ليسمح لهم بخلع عتبة «جامع الميرآخور» بباب النصر الكائن في قلب القاهرة، بحجة أن تلك العتبة عليها خطوط أثرية قديمة، فكان جواب الباشا هو الرفض الشديد. وتقول الوثيقة التي سجلت الواقعة إن محمد علي طلب «تفهيمهم عدم جواز ذلك، وأن يقال لهم:» لا يصح أن نعطيهم الأحجار التي في مباني الجوامع» (محفظة الأبحاث رقم 127- ملخص مكاتبة بتاريخ 26 شوال 1242ه- محفوظات دار الوثائق بالقاهرة). واستمر هذا الاهتمام الرسمي بالمؤسسات الوقفية وموروثاتها الأثرية، وتضمنت اللائحة الأولى لديوان عموم الأوقاف الذي أنشأه محمد علي في سنة 1251ه- 1835م نصوصاً كانت في معظمها متعلقة بالحفاظ على الجوامع والتكايا وأسبلة المياه الموقوفة وما بداخلها من منقولات ثمينة، كما أن اللائحة الثانية للديوان الصادرة في سنة 1276ه- 1851م في عهد عباس باشا الأول تضمنت نصوصاً مشابهة لما نصت عليه اللائحة الأولى. ثم صدر في 18/12/ 1881م أول دكريتو (قانون) بتشكيل «لجنة حفظ الآثار العربية القديمة» تحت رئاسة «ناظر عموم الأوقاف»، وكان من مهماتها الرئيسة: «ملاحظة صيانة الآثار العربية وإخبار نظارة الأوقاف بالإصلاحات والمرمَّات المقتضى إجراؤها»، وذلك حتى يمكن للنظارة أن تطابق الإصلاحات المراد عملها مع «شروط الواقفين» المنصوص عليها في حجج وقفياتهم، على أن يكون تمويل ذلك من ريع الأوقاف الداخلة تحت إشراف نظارة الأوقاف». وفي سنة 1918م أصدر السلطان أحمد فؤاد (الملك فيما بعد) القانون الرقم 8 بشأن «حماية آثار العصر العربي»، ونصت مادته الأولى على أنه «يعد أثراً من آثار العصر العربي كل ثابت أو منقول يرجع عهده إلى المدة المنحصرة بين فتح العرب لمصر وبين وفاة محمد علي في منتصف القرن التاسع عشر، مما له قيمة فنية أو تاريخية أو أثرية، باعتباره مظهراً من مظاهر الحضارة الإسلامية». ونصت المادة ذاتها- أيضاً- على سريان أحكام القانون «على ما له قيمة فنية أو أثرية من الأديرة والكنائس القبطية المعمورة التي تُقام فيها الشعائر الدينية» وتكون وزارة الأوقاف هي المسئولة عن تسجيل تلك الآثار والإشراف عليها وصيانتها. وتشير الأعمال التحضيرية لذلك القانون إلى أن الأعيان الموقوفة التي كانت تنطبق عليها أحكامه شملت الجوامع والكنائس العتيقة والخوانق والأسبلة ومخطوطات الكتب والعُملات والسيوف، وما شابه ذلك من المقتنيات الأثرية التي هي- في الوقت ذاته- من أعمال الفنون والصناعات الجميلة. وكان آخر القوانين الصادرة في شأن الآثار بعامة والموقوفات الأثرية بخاصة، القانون الرقم 117 لسنة 1983م الذي أعطى صلاحيات واسعة للجنة الحفاظ على الآثار الإسلامية، ومن ذلك حقها في إخلاء أو إزالة التعديات على الآثار الموقوفة، مقابل تعويض نقدي، ويكون ذلك بأوامر إدارية ومن دون اللجوء للقضاء. ومن أسف أنه لا توجد إحصاءات رسمية شاملة بالآثار الوقفية في مصر. وقد كثرت التعديات عليها في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وبخاصة في أحياء القاهرة القديمة مثل: الجمالية، والدرب الأحمر، والأزهر. وتبذل هيئة الأوقاف المصرية جهوداً مضنية من أجل إزالة تلك التعديات وترميم الآثار الوقفية وتحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أصحاب الأيادي القوية والنفوس الضعيفة. ويلفت النظر أن مسؤولية الحفظ على الآثار الوقفية غالباً ما ظلت متفرقة بين أكثر من جهة. فحتى سنة 1936م كانت وزارة الأوقاف هي المسؤول الأول عنها، ثم نُقلت هذه المسؤولية إلى وزارة المعارف في تلك السنة، ثم أصبحت هناك هيئات رسمية متخصصة بعضها يتبع وزارة الثقافة، وبعضها الآخر يتبع وزارة السياحة، وبعضها يتبع هيئة الآثار، وذلك في أعقاب ثورة يوليو سنة 1952. واليوم انحسر اختصاص وزارة الأوقاف عن هذا المجال، وأصبح مقتصراً إما على إبرام بعض عقود الصلح مع القائمين بتلك التعديات، أو على إدارة ما تبقى من الأعيان الموقوفة ذات القيمة الأثرية واستغلالها اقتصادياً، للإنفاق على المنشآت والمباني الأثرية الأخرى صاحبة الاستحقاق في ريع تلك الأوقاف. وعلى رغم تعرض متحف الفن الإسلامي في القاهرة (باب الخلق) لهجمة إرهابية وحشية أتت على كير من مقتنياته، إلا أن الجهود الحكومية نجحت في ترميمه ليستأنف أداء رسالته على أفضل مما كان، بخاصة بعد أن تم تدعيم مقتنياته بأكثر من 400 قطعة أثرية، كثير منها من موروثات الأوقاف التي تنتمي لعديد من بلدان العالم الإسلامي. وتشير سجلات تأسيس متحف الفن الإسلامي التي اطلعنا عليها إلى أن التفكير في إنشائه بدأ سنة 1892م بهدف «جمع المقتنيات الوقفية ووضعها فيه وعرضها على الجمهور العام (مكاتبة في شأن إقامة متحف الفن الإسلامي المؤرخة في 6/6/ 1892م محفوظة بدار الوثائق القومية: محافظ عابدين محفظة رقم 163). وفي سنة 1899م طلبت «لجنة حفظ الآثار العربية» من الحكومة المصرية آنذاك أن تقوم بوقف بعض الأطيان الأميرية الحرة «على ذمة «الأنتكخانة العربية»، لكن اللجنة المالية، التي كان يسيرها صندوق الدين الأجنبي آنذاك رفضت فكرة الوقف، واكتفت بتخصيص ريع الأطيان للغرض المقصود تخصيصاً إدارياً فقط، والسبب هو أن «صندوق الدين» كان يعارض تحويل الأراضي الأميرية إلى الأوقاف، لأن وقفها كان يخرجها من دائرة سيطرته على مالية البلاد. وتكشف «وثائق لجنة الآثار العربية»- بما فيها وثائق تأسيس متحف الفن الإسلامي أن «لجنة حفظ الآثار العربية» كانت على مستوى رفيع من الوعي الحضاري، فقد أعلنت عزمها آنذاك على العناية بتلك الآثار التي حفظتها المؤسسات الوقفية على مر العصور السالفة، ووضعت هدفاً واضحاً لعملها وأدمجته في دكريتو (قانون) تعيين قومسيون الآثار التاريخية، ونص هذا الدكريتو على جمع الآثار الوقفية المنقولة بغرض» إعادة توظيفها لتكون من وسائط الرقي في الصناعة الشرقية، والحفاظ على خصوصية التراث، ولجذب السواحين» (نص الدكريتو في محفظة رقم 163 دار الوثائق بالقاهرة- محافظ عابدين). والزائر لمتحف الفن الإسلامي في القاهرة اليوم يجد بالفعل أن كثيراً من مقتنياته عبارة عن آثار وقفية من الثريات، ومنابر المساجد، والسيوف، والمشغولات الذهبية، والمصاحف، والدروع، وغير ذلك من التحف النادرة التي تمّ جمعها من مصادر مختلفة، كان من أهمها المؤسسات والمباني الوقفية القديمة. ومن مقتنياته ما وقفه على هذا المتحف الأمير يوسف كمال– من أعضاء الأسرة العلوية بمصر- تباعاً من سنة 1913م إلى سنة 1926م، وهي السنة التي سجل فيها الأمير وقفياته الأثرية تسجيلاً شاملاً وموثقاً، بعد أن كان حرر أحد عشر حجة وقفية في محكمة مصر الشرعية، كان أولها بتاريخ 20 من محرم سنة 1330ه- 18 من شباط (فبراير) سنة 1913م، أما آخرها فهو بتاريخ 21 من شعبان سنة 1345ه- 14 من شباط 1926م. و جميع حجج وقفيات الأمير يوسف كمال محفوظة في سجلات وزارة الأوقاف المصرية، ولها صور في ملف التولية رقم 1505 الخاص بمستندات أوقافه. اشتملت وقفيات الأمير يوسف كمال على مجموعات نادرة من المقتنيات الأثرية، من نفائس التحف ذات القيمة العالية في فنها وجمالها، وقد حرص على تسجيل القطع الأثرية التي وقفها قطعة قطعة، مع وصف تفصيلي لكل منها، مع ذكر منشأ صناعتها، وتاريخ صنعها وثمنها الذي قدرت به (في سنة وقفها)، وهي تشمل مجموعات من الأطباق والصحون، والأباريق، والثريات، والخناجر، والسيوف، والمشغولات الفضية والذهبية، واللوحات الفنية، وكلها ذات نقوش وزخارف ورسوم آية في الجمال، وتنتمي إلى بلدان متعددة من الصين شرقاً إلى تركيا شمالاً، ومراكش غرباً، والسودان جنوباً، ويرجع تاريخها إلى عصور مختلفة منها القديم، ومنها الوسيط، ومنها الحديث. وقد بلغ عدد القطع التي وقفها 495 قطعة- أربعمئة وخمسة وتسعين قطعة- وأمر بنقلها بعد أن وقفها إلى «دار الآثار العربية الإسلامية المصرية» بجهة باب الخلق، ونصت حجة وقفه على أن الغرض من ذلك هو أن «ينتفع بها استغلالاً فقراء المسلمين، وبرؤيتها ومشاهدتها الصناع والمخترعون، وغيرهم من الهيئة الاجتماعية تعلماً واستفادة ومشاهدة، ويصرف ريعها- من الرسوم التي يدفعها الزائرون- إلى الفقراء والمساكين على الدوام». وانطوى هذا النص على فكرة مبدعة في تراث حجج الأوقاف وهي أن الواقف قد جمع بين متعة الأغنياء وجذب السواحين والحصول على دخل رسوم الفرجة والمتعة من جهة، واستفادة طلاب العلم وأرباب الفنون من جهة ثانية، وإعانة الفقراء والمساكين من جهة ثالثة. وقد اشترط الأمير- أيضاً- في حجة وقفيته على المتحف الإسلامي أنه «ليس للنظار على هذا الوقف ولا لأي قاضٍ شرعي، ولا لأحد غيرهم حق مطلقاً في بيع الأشياء الأثرية الموقوفة، ولا أي منها، ولا هبته، ولا استبداله، ولا تغييره، بل تبقى وقفاً محفوظًا على وجه ما ذكر»، وأن يكون النظر عليها لكل من يكون ناظراً لوزارة الأوقاف المصرية بصفته، فإن تعذر يكون النظر لمن يقرره قاضي المسلمين الشرعي بمصر». وإضافة إلى ما سبق قام الأمير يوسف كمال في سنة 1925م بوقف مجموعات أخرى من القطع الأثرية «صناعة الصين» ومجموعات من الأقمشة القبطية التي يرجع تاريخها إلى القرنين السابع والثامن للميلاد، ومجموعات من «اللوحات الفنية» والكتب والمراجع الخاصة بالفنون الجميلة وبالعمارة، وبعض الصور المجسمة، وجعلها وقفاً ليستفيد منها المشاهدون وطلاب العلم والمبدعون من دون مقابل، وقد وضعها في صيغة الوقف ونقلها إلى المتحف تحصيناً لها، وضماناً لبقائها وعدم ضياعها ولا يزال معظمها موجوداً حتى اليوم. وفي هذا قدوة حسنة لمن كان يريد المشاركة في النهضة الحضارية والسعادة العمومية.