تشترك الثورة مع الدين في توليد «روحانية خاصة» ربما كانت هي الأقدر على تغيير المجتمعات وتوجيه حركة التاريخ، ففيهما معاً تبلغ البصيرة الإنسانية ذروتها، من خلال إحساسها بالاكتمال والتوحد مع السر الوجودي المطلق لكلتيهما: الله في حال الدين، والحرية في حال الثورة. عند لحظة التوحد هذه، تتحقق الفعالية القصوى للفاعل الإنساني، إذ تكتمل إرادته بخروجه «المؤمن الثائر» من دائرة الخبرة «العادية»، بحيزها المحدود وفعاليتها الجزئية، إلى خبرة أخرى «استثنائية» تبلغ معها الإرادة غايتها، إذ تبلغ الرغبة في التضحية ذروتها فيتساوى الموت مع الحياة، والوجود مع العدم. يرجع ذلك إلى قدرتهما (الدين والثورة) على توليد نوع من «النشوة الوجدانية»، التي هي ناتج انفعال غير عقلاني، يتخطى العقل التحليلي، لينتج صورة ذهنية مباشرة لدى الذات/ الوعي، عن العالم/ الواقع. هذا الانفعال يصدر عن ذهنية واعية، لكنها لا تريد الآن تجزئة موضوع معرفتها وتحليله ثم إعادة تركيبه. إنها نوع من الحدس بالكليات والمطلقات، أو لعلها نمط من الوعي الكوني الشامل المنطلق من باطن إنسان أشرقت روحه إما بالحضور القدسي لقوة علوية قد تكون متسامية على الوجود، تحمل اسم الله كما هو الأمر في الدين، خصوصا التوحيدي، وإما بحضور دنيوي لفكرة سارية في باطن الروح الإنساني، تحفز الإرادة لدرج امتلاكها على منوال تلك الأفكار الملهمة، القادرة على اختراق التاريخ، كالحرية. يفترض هنا أن يكون الدين صحيحاً، وأن تكون الثورة نقية، ولا تكون الثورة كذلك إلا إذا دارت حول مثل عليا، تكاد تطاول المطلقات الدينية، كالحرية والعدالة والمساواة، يبدو الموت من أجلها لدى الثائر أفضل من الحياة من دونها، كما يموت المؤمن لأجل دينه سعيداً مستبشراً، لأن الموت مع الإيمان خلود للإنسان، والحياة من دونه فناء في الزمان. وهكذا تستعير الثورة من الدين روحانية الاستشهاد، بقدرتها على تمثل ما في الدين من قدرة على إلهام الضمير الفردي، وتكتيل الإرادة الجمعية لقطاعات واسعة من البشر، فالمجتمع الذي يجمع الناس فيه شعور الأخوة والصداقة، وتسيطر عليه مشاعر التضامن والتضحية والمصير المشترك، يعتبر في حال دينية جوهرياً. ولعل مناخ الحرارة العاطفية العالية الذي يظهر في حالات الطوارئ، كالثورات والحروب، يشبه كثيرا تلك الاحتفالات الدينية في الشرائع السماوية، والطقوس السحرية في الديانات الوضعية، من زاوية كونها رابطاً إنسانياً، ولاصقاً اجتماعياً عميقاً. لقد أخذت ثورة النيل من المصريين نحو ثلاثمئة شهيد، ولكنها أعطت باقي الثائرين روحانية هائلة مكنتهم من التعاضد والصبر والإقدام، ومنحتهم الشعور بقدرتهم على الإمساك بمصيرهم المشترك، بل ولدت لديهم رؤى طوباوية للتاريخ، شعروا معها بأنهم يتصرفون بحسب خطته، وأنهم الأكثر فهماً لمنطقه، والسير من ثم - باعتبارهم وكلاء له - نحو تغيير العالم من حولهم، لا مصر فقط، ولعل هذا هو سر العنفوان والإصرار على رفض المساومة على مطلبهم بإسقاط النظام، والذي ربما لم يفهم كثيرون سره، خصوصاً أولئك المرفهين بينهم، الذين لم يكن متصوراً لهم أن يصمدوا ضد عنفوان أمننا المركزي الباسل، فالحماسة الثورية تعكس مشاعر دينية في الصميم والجوهر، ولكنها أخذت طابعاً ثورياً/ دنيوياً. وبدلاً من أن تظل في انتظار تحقق القيم الفاضلة في ملكوت السماء، أخذت تدعو إلى مثيلاتها من قيم الأخوة والتضامن والحرية والعدالة، إدراكا للجنة على هذه الأرض. فى زيارتين إلى ميدان التحرير، كشفت لي هذه الروحانية عن نفسها في حالات تكافل وتواصل غير متصورين في مثل هذا الحشد، الذي يتصور أن يبحث كل فرد فيه عن حاجاته هو، أو يكترث بمطالبه الخاصة فتشح الأنفس بما تملك، وتشح العطايا عن أي وقت آخر، غير أن العكس هو ما حدث، فكان الناس يأكلون ويشربون ببساطة مدهشة وإنكار فائق للذات. في زيارتي الثانية كان الحضور كثيفاً، والحركة صعبة، والناس على كل شاكلة ومن كل لون، والجنسان مختلطين، لم يتدافع أحد على آخر، على نحو ما يحدث بين حضور حفل سينمائي لا يزيد رواده على مئة شخص أو مئتين، ولم يتحرش شاب بفتاة، على رغم شيوع التحرش في السنوات الأخيرة، التي وشت بانحطاط أخلاقي كبير. لم يشتبك مسلم مع مسيحي، بل بلغ الجميع ذروة التعاون، وخصوصاً يوم إقامة القداس، الذي لم أحضره ولكني رأيته تلفزيونياً، فأولئك يطوقون هؤلاء وهم يتعبدون، وهؤلاء يحيطون أولئك وهم يصلون، وبينما كانت أخبار الحرائق تتوالى عن أقسام الشرطة ومقار الحزب الوطني، لم يأت خبر عن احتراق كنيسة أو اقتحام مسجد، على رغم أن الشوارع بلا شرطة، ولا ضامن للأمن، وعلى رغم أن حدث تفجير كنيسة القديسين كان لا يزال حياً تماماً في الذاكرة، وإن توارى عن العيون. وعلى رغم وجود منتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين، ومحاولتهم أحياناً رفع شعار «إسلامية... إسلامية»، فإنهم كانوا في أكثر حالاتهم تسامحاً مع مخالفيهم، الذين سرعان ما كانوا يرددون «إيد واحدة» أو «مدنية... مدنية»، فكانوا يعلون منطقهم وفهمهم لما يقومون به ولكن من دون تشنج. تكشف هذه المشاهد جميعها عن أخلاقية طهرانية، وتسامح عميق، تلهمه لدى هؤلاء وأولئك روحانية ثورية هائلة شعر معها الجميع بأنهم أمام قضية كبرى تستحق من الجميع أن يسمو على طبيعته، وأن يتجاوز نفسه في حالتها «العادية»، فيما لم يكن الجميع قادرين على ذلك التسامي أو التسامح في زمن الركود والجمود، ذلك أن الأمم تكتشف نفسها، وتظهر أفضل ما لديها وهي تتحرك على مسارات التاريخ، تعمل إرادتها، فيملأها الشعور العميق بشخصيتها الجماعية وإرادتها الكلية التي تتحرر بها من العجز، وتشعر بالسيطرة على مصيرها. وفي المقابل، تفقد الأمم أعمق خصالها، وتطفح بأسوأ ما فيها عندما تتباطأ حركتها أو تتوقف، فهنا ينتابها الشعور بالعجز، وتنفجر فيها علامات الانحطاط الأخلاقي، كالتحرش والقذارة واللامبالاة، والانحطاط الفكري، كالتطرف والفتنة وغير ذلك كثير. لم يخل الميدان من صور كاريكاتورية تعبر عن الشخصية المصرية بكل تجلياتها الإيجابية والسلبية. طالعت شعاراً يجسد أبدع قيم الوطنية، وكاد يبكيني، كتب عليه حامله: «حقك علي يا بلدي... اتأخرت عليكي»، فما إن مررت بين الحضور إذا بي أنظر إلى قريب من الثائر الأول الذي أصابني بالشجن، لأجد ثائراً آخر كاد يضحكني، بل أضحكني بالفعل، ولا يزال يضحكني كلما تذكرته، إذ رفع شعاراً مطالباً برحيل الرئيس مبارك، مفعماً بخفة دم مصرية شديدة يقول: «ارحل بقى... إيدي وجعتني». في المقابل، وعلى العكس، ساءني مشهد آخر رأيت فيه صورة الرئيس على هيئة النازي، وبجواره الصليب المعقوف، وعندما هممت بمحاورة الثائر الذي يحمله قائلاً له ان هذا لا يليق، وان مبارك على رغم أخطائه الكثيرة لا يقارن بالزعيم النازي المتطرف الذي وضع القارة الأوروبية برمتها، بل والحضارة الإنسانية كلها، على حافة التدمير، فإذا به يكمل بسب الرئيس في كلمات تتفوق في قسوتها على قسوة الصورة التي يحملها، ما بدا لي أمراً غريباً على المزاج العام للشخصية المصرية البالغة الاعتدال، وخشيت من أن يكون الاستبداد الطويل والقهر العميق قد تركا فينا بصمة عميقة، ولكني سرعان ما قلت لنفسي مطمئناً إن أثر الحرية سيكون أعمق، وإن انطلاق الإرادة سيمحو القهر كما يجلي ضوء النهار ظلمة الليل. * كاتب مصري