عندما نتأمّل طبائع البشر في علاقاتها مع أنظمتها السلطوية، نجد حالات متباينة بين أولئك البشر الذين هم في أصل الخلقة سواء؛ فهناك شعوب تعيش حالات من القوة و الإبداع في فنون الحياة و ترفل برغد العيش الكريم، و لا يحدّ من كرامتها وسموّها الإنساني أيّ أحد من البشر، كما هو الحال في حكم (بركليز) في العصر الإغريقي، أو حكم "عمر بن عبد العزيز" في الخلافة الأموية. وهناك من الشعوب المقهورة الذليلة التي لا تختلف طبائعها الحياتية عن بقية الحيوانات المدجّنة، ولا تعيش إلاّ من أجل البقاء على قيد الحياة بأقل متطلبات الضرورة الإنسانية؛ فهي كائنات مستعبدة خُلقت حرّة وتحوّلت بفعل القهر الإنساني إلى أدوات ساكنة تتحرك وفق ميول السلطة المستبدة، كما هو الحال في عصر الإمبراطور (نيرون) الروماني، و(هولاكو) المغولي، و(ماو تسي تونغ) الصيني وغيرهم كثير. هذه الطبائع الإنسانية ساهم في علّوها أو سفولها طبيعة العلاقة المتبادلة بين الفرد ونظامه الحاكم، وبين تلك الطبيعتين طيف واسع من الأنواع البشرية المتردّدة بين نور الحرية و نير العبودية. ومن غرائب طبائع البشر الذين اعتادوا العبودية والقهر أن تتحول تلك العذابات إلى رغبة وشغف، وأصبحت الكرامة و الحرية لديهم تعني الخوف والقلق كشعور نفسي وقناعات تتابعت عليها الأجيال المقهورة. هذه الطبيعة باتت حال بعض المجتمعات الإنسانية اليوم، وقد ضرب المجتمع الصيني في عهد (ماو) أسوأ مثال لتلك الحالة الفريدة، ويمكن تصوّر ذلك الواقع المرّ بأدق تفاصيله الرهيبة بقراءة الرواية المتميزة "البجعات البرية" للكاتبة الصينية (يونغ تشانغ)، أو قراءة رواية (1984) للكاتب البريطاني (جورج أورويل)، ولا يختلف هذا الواقع عمّا حصل في بعض دول الاتحاد السوفيتي سابقًا، أو بعض الدول العربية في مرحلة ما قبل ثورات 2011م. ويمكن قراءة هذه الطبيعة الإنسانية التي تستهوي العبودية طوعًا، و تنفر من الحرية بأقصى درجات الهروب أو الانكفاء من خلال مقاصد التشريع الإسلامي و علم الاجتماع الإنساني. فالشريعة الإسلامية جاءت في مجملها بما يحرّر الإنسان من كافة صور العبودية لغير الله تعالى، كما قال ربعيُّ بن عامر -رضي الله عنه- لرستم قائد الفرس لمّا سأله: ما جاء بكم؟ فقال له: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام". [انظر: البداية والنهاية لابن كثير 7/40]، هذا النص الذي يحوي غاية الشريعة ويلخص مجمل أحكامها، الراجعة إلى ترسيخ الحرية في القلوب بالتوحيد الخالص لله تعالى وفي العقول بحرية النظر، كما في قوله تعالى: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [يونس: 101]. حتى في اعتناق الدين والذي يعتبر عند المسلمين بمثابة الحق الواجب، فقد جاء في قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي). [البقرة: 256] ليؤكد حرية الاختيار وعدم الخضوع لجور الأديان، كما مارسته الكنيسة الكاثولوكية في العصور الوسطى بتعسف بالغ لا تحتمله الطبيعة الإنسانية السويّة، بالإضافة إلى نصوص العدل وتحريم الظلم والدعوة إلى المساواة في الأحكام والعقوبات، فكلها جاءت لتحرير الإنسان وفق قاعدة المقصد الأعظم في الشريعة كما يقول الشاطبي: "بإخراج المكلف عن داعية هواه ليكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا". [الموافقات 2/251]، وبناءً على ذلك التواتر من النصوص والأحكام قرر عدد من العلماء المجدّدين إثبات مقصد الحرية كمرجع كلي تعود إليه الأحكام والأنظمة في الشريعة، ولعل من أشهرهم، الإمام الطاهر بن عاشور؛ فقد جعل الحرية من ضمن مقاصد الشريعة وعليها أساس الفطرة التي جاءت كمشترك بشري جرت حياة الخلق على إقراره. [انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية 130،و وافقه الدكتور بن زغيبة في المقاصد العامة للشريعة 198، وعبدالنور بزا في مصالح الإنسان. مقاربة مقاصدية 235]، وللأسف أن هذا السموّ التشريعي الذي قاد المجتمعات الإسلامية من عصور الانحطاط إلى مرحلة الريادة والشهود الحضاري تراجع بشكل كبير، وتلاشت هذه الميزة الفريدة في الفكر الإسلامي بسبب الاستبداد السياسي والانغلاق المذهبي، حتى تحوّلت مفردة (الحرية) إلى شغب على الثوابت، وأصبح روادها دعاة على أبواب جهنم، إما على وجه الحقيقة أحيانًا، و إما على سبيل الاتهام لخصومهم، ثم توالت اللعنات على مجمل الحريات في (الإرادة والفكر والتعبير) بالرضا بالعبوديات الخاضعة لأهواء البشر من الساسة والاقتصاديين، أو التعصّب لأشخاص الفقهاء والوعّاظ، أو التماهي مع زيف الإعلاميين، وما حصل و يحصل هذه الأيام في بعض الدول العربية الثائرة على أنظمتها القمعية، لهو أصدق تعبير عن حالة الكبت والظلم و القهر الذي فجّر الفطرة الإنسانية لتثور لحريتها وكرامتها على الرغم من كل القيود و تراكمات سنين الخوف والإذلال. أما المقاربة السيسيولوجية للقلق من الحرية والعبودية الطوعية للاستبداد، ففيها العديد من الدراسات والكتب التي تناولت هذه الظاهرة الفريدة بالبحث في صفات الأنفس و ماهية المجتمعات وأحوالها، ولعل أشهرها كتاب "الخوف من الحرية" لمؤلفه (إريك فروم) عندما تحدث عن التجربة النازية في ألمانيا، وقريبًا منه كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبدالرحمن الكواكبي. ولكني في هذا المقال سأتناول الدراسة القيمة التي كتبها (إيتيان دو لا بويسي) المفكر والأديب الفرنسي في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، وسطرها في كتاب خرج بعنوان: (مقالة: العبودية الطوعية)، تناول المؤلف طبيعة الإنسان عندما يألف الاستبداد، وكيف تصبح الحرية نوعًا من الهلع الرهيب الذي يهرب منه المرء بأقصى سرعة، ليعود بكل رضا وقناعة بوضع القيد على رقبته ويلعق أقدام الجلاد لظهره، لقد كانت مقالة (لا بويسي) رسالة للمستبدين شملت عددًا من النصائح التي استقرى فيها مصائرهم المحتومة، فوجدها إما القتل على يديّ من أنعم عليهم، أو خيانة أقرب المقربين إليهم، وإما الموت الذي يجعلهم لعنة في صفحات التاريخ لا تُمحى ولا تُنسى عقودًا من الزمن، ومن تقريراته النفيسة، قوله: "فواهمٌ كل الوهم من يظن أن فؤوس الحرب والحرس والمراصد تؤمن حماية للطغاة.. ونرى بكل يسر أن عدد الأباطرة الرومان الناجين من الخطر بفضل رماتهم الذين هبوا لنجدتهم، أقل بكثير من عدد الذين قُتِلوا على أيدي أولئك الرماة أنفسهم". [مقالة العبودية الطوعية 178]. وفي قول آخر له حول تكاثر الأعوان لدى المستبدين: "حينما يتحوّل أحد الملوك إلى طاغية فإن كل ما في المملكة من شرّ ومن حثالة.. يجتمعون من حوله ويمدّونه بالدعم لينالوا نصيبهم من الغنيمة". [المرجع السابق 180]، أما عن حال أولئك الأعوان والمتملّقين فيقول: "وحين أتفكر في هؤلاء الناس الذين يتملقون الطاغية من أجل أن ينتفعوا بطغيانه وبعبودية الشعب، يتولاني الذهول حيال شرّهم بقدر ما تنتابني الشفقة حيال غبائهم، فهل يعني تقرب المرء من الطاغية سوى ابتعاده عن الحرية، وبالتالي ارتمائه كليًّا في أحضان عبوديته". [المرجع السابق 180]. أما عن طبيعة العلاقة بين الطاغية ومن حوله فيقول: "إذا ما التقى الأشرار فإنهم لا يؤلِّفون مجتمعًا بل مؤامرة. وهم لا يتحابّون بل يخشى بعضهم بعضًا، وليسوا أصدقاء؛ بل هم متواطئون.. يا إلهي، كيف يكون المرء منشغلاً ليلاً ونهارًا بإرضاء رجل، ويحذر منه ويخشاه أكثر من أي شيء في الدنيا". [انظر: المرجع السابق 185]. أيضا حوت المقالة رسالةً أخرى للشعوب المستعبدة، و حاول إيقاظ عقولهم للتحرر، وأنفسهم للكرامة، من خلال الشواهد التاريخية، والمقارنات المجتمعية، و حتى المعالجة النفسية كذلك، وفي هذا النوع من الإقناع بضرورة الحرية للشعوب، يقول: "إن الشعب الذي يستسلم بنفسه للاستعباد يعمد إلى قطع عنقه، والشعب الذي يكون حيال خيار العبودية أو الحرية؛ فيدع الحرية جانبًا ويأخذ نير العبودية هو الذي يرضى بالأذى؛ بل يسعى بالأحرى وراءه". [المرجع السابق 151]. و يحلل كيف يمكن للناس أن يعجّلوا بزوال الطغاة دون فعلٍ للمواجهة، فيقول: "إن النار التي تبدأ من شرارة صغيرة لتتأجج ويزداد سعيرها على الدوام، وكلما وجدت حطبًا سارعت بالتهامه، فحسبنا أن نكفّ عن تزويدها بالحطب، فحينها تأكل بعضها، وتغدو فارغة من كل قوة لتصير إلى العدم: كذلك هي حال الطغاة". [انظر المرجع السابق 152]. فهنا يؤكد (لا بويسي) أكثر من مرة أن الكف عن دعم الطغاة سيؤدي إلى تفريغهم من سطوتهم، وبالتالي يعجل بنهايتهم، مع تذكيره الدائم بأن الناس "لو عاشوا مع الحقوق التي وهبتنا إياها الطبيعة، ومع التعاليم التي لقّنتنا إيّاها، لكنّا مطيعين لأهلنا خاضعين للعقل غير عبيد لأحد". [المرجع السابق 154]. وحول حق الحرية التي قررتها الأديان والمواثيق،يقول: "إننا لم نولد وحريتنا ملك لنا فحسب؛ بل نحن مكلفون أيضا بالدفاع عنها". [المرجع السابق 156]. الحقيقة أن التأمل النفسي والاجتماعي الذي قدمه (لا بويسي) قبل أكثر من أربعة قرون لعبودية الإنسان لمثيله الإنسان، وفلسفة الخوف من الحق الطبيعي في الحرية؛ ليعتبر وثيقة تاريخية لا تزال كلماتها حتى اليوم تبعث في الأنفس الانعتاق نحو فضاءات الحرية الملتزمة بالحق، و تؤكد قيمة العدل المتحرر من الاستبداد والنفعية. ولا أظن أن إنسان اليوم يستطيع أن يعيش بكرامة ويشعر بقيمته دون حرية تسمو على نزعات الهوى والعبودية للغير، وإذا فقد الفرد هذه الروح فإما الاستسلام للموت البطيء، أو الثورة والتغيير.