الملابس توحي بأصل عربي، طربوش أحمر... الراية تحمل شعار هلال ممتد أفقياً على بندقيتين متقاطعتين. الوجوه تثير الشك، هل هي عربية أم أوروبية؟ لكن على رغم الانطباع الأول، فإن هذه القوات المستعرضة ليست عربية ولا مغربية، على رغم وجود عناصر مسلمة فيها. إنها قوات الريغولاريس «النظاميون» في الجيش الإسباني. في الثلاثين من شهر حزيران (يونيو) تحتفل هذه القوات بمئوية تأسيسها. لكن شتان بين ظروف تأسيسها واليوم... ولماذا تحتفظ دولة أوروبية كإسبانيا بقوات ترتدي الطربوش في استعراضاتها العسكرية؟ تم تأسيس هذه القوات التي سمّيت في الأصل ب «قوات النظاميين البلديين» من جانب الجنرال بيرينغير في 1911 لتساعد في ترسيخ الوجود الإسباني في شمال المغرب. احد مبررات تأسيس هذه القوات كان تقليل الخسائر البشرية الإسبانية أثناء عمليات فرض الهيمنة الإسبانية وهي خسائر تسببت باضطرابات سياسية في اسبانيا. نمت هذه القوات التي تشكلت من غالبية المغاربة، قسم منهم من المتمردين على السلطة الفرنسية والهاربين منها، وغالبية من الضباط الإسبان لتتحول إلى قوة أساسية داخل الجيش الإسباني لعبت دوراً هاماً في القضاء على الثورة الريفية بقيادة محمد بن عبدالكريم الخطابي. لكن لم يكن يدور في خلد مؤسس هذه القوات أنها ستستخدم يوماً لإخضاع خصوم إسبان على أرض اسبانيا نفسها وذلك خلال الحرب الأهلية الإسبانية التي خاضها تحالف بقيادة الجنرال فرانكو ضد الجمهورية الإسبانية في 1936. فالذي حدث هو أن الجيش الإسباني الممتلئ فساداً والناقص خبرة وتدريباً لم يكن يحتوي على قوات متمرسة في القتال إلا تلك الموجودة في المغرب ممثلة بقوات الريغولاريس ذات الغالبية المغربية وقوات اللفيف الأجنبي، وكلتا القوتين اكتسبت مستواها القتالي بعد سنوات من قتال الثورات المغربية في العشرينات من القرن الماضي. وقد اكتسب المغاربة سمعة فائقة في الحرب الأهلية كونهم مقاتلين محترفين أشداء. واحد منهم، الفيلالي عبدالقادر من ريغولاريس العرائش والذي فقد إحدى عينيه في تلك الحرب، يروي كيف كان المغاربة يكلفون بعمليات خاصة مباغتة للاستيلاء على مواقع الجمهوريين. كما نُسبت إليهم كذلك أعمال وحشية، قسم منها قد يكون حقيقياً والآخر من نسج الخيال. هؤلاء المغاربة ساهموا في كون قوات الريغولاريس هي الوحدات صاحبة النياشين الأكثر في تاريخ الجيش الإسباني وهو احد الأسباب وراء إبقاء هذه الوحدات. أما التأثير السياسي لهذه القوات فيتبين من حقيقة أن قسماً كبيراً من أصحاب المراكز القيادية في اسبانيا في الأربعينات والخمسينات وحتى الستينات كانوا ضباطاً خدموا في المغرب إلى جانب «النظاميين» المغاربة. وكان منهم فرانكو نفسه الذي استهل خدمته العسكرية معهم وإلى أن تحول ديكتاتوراً يحيط نفسه بحرس شرف من الجنود المغاربة. وكان فرانكو مديناً بحياته لعسكري مغربي في الريغولاريس أنقذه من موت محقق في عام 1924. هذا العسكري كان النقيب محمد أمزيان المعروف عند الإسبان ب «المزيان». ترقى هذا الضابط ليصل الى رتبة جنرال في الجيش الإسباني ثم ماريشال في الجيش المغربي. بعد استقلال المغرب عام 1956 تم تسريح قسم كبير من الجنود المغاربة ونقلهم إلى الجيش الملكي المغربي، في حين انسحب ما تبقى من وحدات الريغولاريس إلى سبتة ومليلة حيث لا تزال معسكرة إلى هذا اليوم. وعلى رغم مرور أكثر من نصف قرن على استقلال المغرب، إلا أنها لا تزال تحتفظ بمظاهرها الرمزية المغربية وحتى تسمياتها، حيث لا تزال مفردة «طابور» مستخدمة للدلالة على هذه الوحدات... كما أن مسلمي سبتة ومليلة لا يزالون يشكلون قسماً كبيراً منها (النسب غير معروفة بالضبط لكنها ليست قليلة). كما يذكر المؤرخ العسكري السبتي خوسيه مونتيس راموس، فإن هذه الوحدات لا تزال تأخذ في الاعتبار شهر رمضان، كما تقدم لجنودها الوجبات الحلال وتؤدي الطقوس الدينية الإسلامية يوم الجمعة. وعلى رغم أنه في سنوات ما بعد الستينات ثم في فترة الانضمام إلى «الناتو» كان هناك اتجاه لتوحيد الزي العسكري، فإن ضغط الجيش وضغط وحدات الريغولاريس ومدن سبتة ومليلية قد ساعد على استعادة الزي التقليدي الإسلامي الذي يفخر به هؤلاء العسكريون، وقسم كبير منهم اليوم هم أبناء وأحفاد (وكذلك بنات وحفيدات، إذ تخدم اليوم عسكريات مسلمات أيضاً) الريغولاريس الذين حاربوا في العشرينات والثلاثينات. يذكر السرجنت روسادو من القسم التاريخي في قوات الريغولاريس في سبتة أن هذا يعكس التقليد المتبع والذي كان يقضي في سنوات الوجود في المغرب باحترام عادات وتقاليد الجنود المغاربة حتى أصبح مطلوباً من الضباط الإسبان تعلم إحدى اللغات المحلية (العربية الدارجة أو الشلحة الأمازيعية) كما اعتاد القادة الإسبان على ارتداء الطربوش أو «الجلابة» كنوع من الاقتراب الثقافي من جنودهم. هذه الخلفية الثقافية والتاريخية هي احد العوامل، كما يذكر مونتيس راموس، التي جعلت هذه القوات محل تفضيل في المهمات الدولية التي تتم في لبنان والبلقان. جيل ينتهي إذا كان هناك مثال حيّ على أن هذا الجيل من قدماء المحاربين على وشك الفناء، فهو محمد عبدالله السوسي. حين التقيته في حي الريغولاريس بجانب الثكنة العسكرية المسماة غونثاليث تابلاس، لم يكن يدور في خلدي أن الرجل سيلاقي ربه بعد ثلاثة أسابيع من لقائي به، بل إنه قال لي عند وداعي له انني ربما لن أراه ثانية. في سنوات محمد المتقدمة كان يعيش في بيت وفره الجيش له ولعائلته في حي قدماء المحاربين من الريغولاريس. كان لا يزال يتذكر وقائع الحرب التي شارك فيها وأسماء الرفاق والضباط. رقمه العسكري هو 28142. قرأ أنشودة الريغولاريس التي كان لا يزال يحفظها عن ظهر قلب، كما حفظ عن ظهر قلب أنشودة حزب الكتائب «الفالانخيستاس» الإسباني، إذ ان هذا المسلم ذا الأصل المغربي كان عضواً في هذا الحزب، ولم يكن الوحيد بين المغاربة كما تشير الوثائق التاريخية. حين اختار السوسي التطوع في قوات الريغولاريس في سبتة كان يبلغ ال 13 عاماً وكان يهيم على وجهه، منتقلاً من مكان إلى مكان. فمنذ طفولة مبكرة فقد أبويه وصار يعمل حتى أخذه البحث عن الرزق إلى سبتة حيث حاول التطوع وهو لا يحمل أية أوراق ثبوتية، فرُفض باعتباره صغير السن، ثم عاد في العام التالي ليدّعي أنه أكبر من سنه. خدم في الحرب بين عامي 1937 و1939 قبل أن يكمل خدمته في الحاميات المغربية، ثم ليختار البقاء في سبتة والتجنس بالإسبانية. عند سؤاله عن شعوره تجاه خدمته في الحرب، يجيب بأنه فخور بدوره وبأن الجنود المسلمين كانوا دائماً في مقدم الصفوف المحاربة. أما عن رأيه بفرانكو، فيجيب بشيء من الحذر بأن فرانكو «لم يكن سيئاً إلا مع من كان سيئاً معه». لم يكن الوحيد من قدماء المحاربين المغاربة في تجنبه لانتقاد فرانكو، فمعظم قدماء المحاربين تترواح آراؤهم من عدم انتقاد فرانكو إلى حد وصفه بأنه «أكبر الرجال في اسبانيا». ومن المفارقات أن محمداً تزوج لاحقاً من ابنة قائده العسكري الذي كان برتبة ملازم، أما هذا الملازم، المسمى حبيب علي، فقد جاء كما تقول العائلة إلى المغرب في سن صغيرة قادماً مع أبيه من العراق! لكن قصة عسكري هرم آخر لم تكن أقل إثارة منها. عمي الحسين عمي الحسين، كما يُطلق على الحسين بن عبدالسلام أحد المخضرمين القلة الباقين ممن شهدوا الحرب الأهلية الاسبانية، يعيش في زاوية سيدي ابراهيم في سبتة، في منطقة معزولة يصعب الوصول إليها لشخص مدني، إذ تشكل جزءاً من منطقة عسكرية من العسير على السيارات المدنية الوصول إليها، هذا عدا وعورة المنطقة الجبلية المؤدية إليها. لم يكن الفقر دافعه إلى التجند في الجيش الاسباني. يقول: «وضعنا الاقتصادي كان جيداً»، لكن عنفوان الشباب دفعه عام 1937 وكان في سن ال 18 إلى محاولة التطوع في الجيش الفرنسي. حين قيل له ان عليه المحاولة في السنة اللاحقة انتقل إلى منطقة الحماية الاسبانية حيث استقبله عسكريان اسبانيان حاولا إقناعه بالتطوع في وحدتهما، لكن عريفاً آخر من الريغولاريس أقنعه بأن الريغولاريس تحتوي على كثير من المسلمين. بعد فترة من التدريب نزل مع وحدته في ميناء الجزيرة الخضراء. «هناك لقينا أناساً فقراء... نساء وأطفال جاؤوا يتوسلون الطعام. فأمرنا القائد بتوزيع الأكل عليهم من مخصصاتنا، إذ كان لدينا الكثير». حين أُخذوا بالقطار إلى منطقة وادي الخاراما التي شهدت أعنف المعارك، كان الوضع معاكساً، يقول: «هناك وزع الناس علينا الأكل إذ كان لديهم الكثير». في البينغارون كانت خنادق الطرفين قريبة من بعضها بعضاً، بحيث كان الخصوم يتبادلون الحديث ويسألون بعضهم بعضاً عن المكان الذي أتوا منه. في المعارك اللاحقة في منطقة ترويل شهد بعينه نتائج قصف الطائرات لخنادق العدو. «حين وصلنا الخنادق رأينا هؤلاء الناس كلهم قتلى. فدفناهم هناك». في منطقة بيدرا خوليانا حدثت واحدة من الغرائب التي تحصل في الحروب. كان هو مع اثنين آخرين في مقدم سريتهم، وكان يفترض أن يتقدموا في الصباح إلى الأمام، لكن السرية انسحبت وصادف ذلك تقدم قوة من العدو. ويضيف: «كنا محظوظين بأننا كنا نرتدي أغطية رأس متشابهة، فاعتقدوا أننا منهم»... تمكن هو وزملاؤه بعدها من الإفلات، وعند عودته عانقه الضابط ورفعه في الهواء. انتهت رحلته مع الحرب حين أصابت رصاصة من مدفع رشاش رأسه، قضى إثرها أربعة أشهر في مستشفى سالامانكا العسكري. حين انتهت إجازته المستمرة 24 يوماً والتي قضاها في سبتة كانت الحرب قد انتهت. بدلاً من أن يعود إلى مسقط رأسه قرر أن يبقى في سبتة حيث رتب له آمر كتيبته عملاً، فبقي هناك وتزوج. بين الفترة والأخرى يمر آمر المنطقة العسكرية لسبتة لزيارته وتبادل بعض الحديث، لكن للحسين شكوى واحدة وهي أنه حصل على ميدالية «المعاناة في سبيل الوطن» وهي ميدالية عسكرية كانت كفيلة بأن تزيد معاشه في شكل أكبر نسبياً، لكن ميداليته فُقدت أثناء فترة علاجه في المستشفى العسكري، وهو ما جعله يفقد بعض الامتيازات المادية على رغم وجود اثباتات عنده بأنه حصل على هذه الميدالية نظير شجاعته. لكن وضعه أفضل نسبياً من كثير من قدماء الريغولاريس المغاربة الذين عادوا إلى المغرب. في حرب العصابات لم ينته دور المغاربة الريغولاريس في اسبانيا بانتهاء الحرب الأهلية الاسبانية، ودندي محمد، شاهد على ذلك. حياته لم تقل في مأساتها وإثارتها عن حياة آلاف المغاربة الآخرين من المحاربين الذين خدموا في الجيش الاسباني. ولد في 1928 وكان يبلغ أقل من تسع سنوات حين قُتل والده في المعارك الشرسة على جبهة ترويل. توفيت والدته على الفور من أثر الصدمة، ولم يبق لهذا الابن خيار غير اتباع الطريق الذي خطف منه والده، ليدخل الجيش الاسباني في 1943 وعمره لا يزيد بقليل عن 14 سنة. لو أن الأقدار أسعفت الألمان آنذاك لربما وجد نفسه يقاتل إلى جانبهم في روسيا داخل صفوف القوة الاسبانية المعروفة بالفرقة الزرقاء والتي كان من المفترض أن يتم إرساله إليها. لكن حين تبين أن الألمان في طريقهم إلى الاندحار تم صرف النظر عن إرساله و1500 آخرين. لكنه في رمضان العام 1946، وقد اشتد ساعده تم إرساله مع كتيبة الاستطلاع التابعة لريغولاريس تطوان إلى اسبانيا للمشاركة في عمليات البحث عن بقايا الجمهوريين الذين كانوا لا يزالون يشنون حروب العصابات ضد نظام الجنرال فرانكو، وكانوا يعرفون آنذاك بال (ماكي) واستمروا في نشاطاتهم حتى بداية الخمسينات حين تم القضاء عليهم نهائياً. قضى دندي محمد ست سنوات في الخدمة العسكرية في اسبانيا. يصف دور كتيبة الاستطلاع المغربية، بأن مهمتها كانت معاونة الحرس المدني (لا غوارديا ثيبيل)، إذ تنطوي مهمة المغاربة على الإحاطة بالقرى التي يشتبه بوجود العصابات فيها ومنع خروج أي منها، في حين يقوم الحرس المدني بتمشيط القرية بحثاً عن المقاومين. على رغم أنه خلال هذه العمليات لم تحدث اشتباكات مسلحة مع كتيبة دندي محمد، إذ كان للكتائب المغربية دور هامشي في حين يقوم الحرس المدني بالعمليات الأساسية، إلا أن المغربي عرف جماعة الماكي عن قرب، بل لقيهم وجهاً لوجه في مناسبة كادت تغير مسار حياته. يروي أنه في يوم من الأيام كان مع اثنين آخرين من زملائه الجنود الفتية في مقهى في قرية اسبانية يقضون سهرة مع سكان القرية، حين دخل اسبان كثر وجالسوهم وسامروهم، وعندما حانت عودة الجنود الثلاثة إلى ثكناتهم، كشف أحد مجالسيهم عن بندقية رشاشة صغيرة في داخل معطفه، وقال لهم: «نحن الماكي وستأتون معنا». فوجئ المغاربة بذلك ولم يكونوا مسلحين ساعتها. «كنا فتية آنذاك» يروي دندي محمد عن توسل الفتية ألا يذهبوا معهم، وبعد نصف ساعة من الرجاء ثم العناد، قال أحد رجال العصابة المسلحة: «دعوهم في حال سبيلهم». ثم خرجوا تاركين القرية. كانت معجزة أنهم لم يقتلوهم وربما اقتنعوا بأنهم كانوا مجرد جنود بسطاء جيء بهم إلى تلك البلاد. لكنهم في أحيان أخرى لم يتوانوا عن القتل، كما يروي هذا الجندي المخضرم. إذ كانوا يبتزون الأغنياء في القرى ومن يرفض تسديد الأتاوات يُقتل. ويروي أنه في أحد الأيام في أستورياس، جاء الماكي وهم يقودون سيارة مارسيديس سوداء عليها علم اسبانيا، فظن العسكر أنها سيارة الجنرال. دخلت السيارة إلى فيلا أحد الكونتات ولم يتبين للجنود أن شيئاً ما على غير ما يرام إلا حين سمعوا دوي طلق ناري بعد مرور ساعة، وتبين بعدها أن الماكي قاموا بإعدام الكونت بوضع وسادة على رأسه للتخفيف من صوت العيار. الدفعة الأخيرة في طرف مدينة أصيلة، في مقر نادي قدماء المحاربين المقام في معسكر سابق للريغولاريس، يجلس عدد من قدماء العسكر الذين قضوا خدمتهم بلا حروب في الخمسينات وحتى استقلال المغرب قبل أن يتحولوا إلى جنود في الجيش الملكي المغربي. ذكرياتهم عن ضباطهم وزملائهم الاسبان ودية. قسم منهم احتفظ من تلك الفترة بلغة اسبانية لا تزال على طلاقتها. التعامل اليومي مع الاسبان كان جيداً ولا يتذكر أحد من قدماء العسكر المغاربة أن الاسبان مارسوا التمييز العنصري في علاقتهم مع العسكر، ولا أن أحداً من العسكر الاسبان تعدى على مدني في المدينة، أو على الأقل هذه هي الذكريات الباقية عندهم باستثناء حادث واحد، حصل في الفترات الأخيرة للوجود الاسباني والسابقة على الاستقلال. أثناء أجواء التوتر والترقب آنذاك يذكر أحد قدماء الريغولاريس أنه تم ولفترة قصيرة تحديد ذخيرة الجنود بخمس رصاصات للجندي الواحد. عدا ذلك، فإنهم لم يعرفوا يوماً بحادث دموي بين عسكر اسبان وعسكر مغاربة، على خلاف المنطقة الفرنسية التي عاشت في 1955 و1956 مدة من المقاومة المسلحة والتي انضم عدد من الجنود السابقين في الجيش الفرنسي الى المقاومة خلالها. أوضاع اليوم ومآزق التعويض واحدة من مشاكل ذوي القتلى في تحصيل تعويضاتهم هي وثائق التنازل عن الحقوق. تُظهر غالبية وثائق إدارة الحماية الاسبانية المعاملات الخاصة بتعويض ذوي الجنود الذين قتلوا في ميادين القتال في اسبانيا. إذ ان الكثير من ذوي القتلى سواء كانوا آباء للجنود أو أمهات أو أرامل، وقّعوا على تسويات حصلوا بموجبها على دفعة مالية قدرها راتب العسكري المقتول لسنة كاملة ولمرة واحدة لا غير. من غير المعروف إلى أية درجة كان الموقعون على علم بأن تعويضهم سينحصر في هذه الدفعة، ولا بد من أن الحاجة إلى مثل هذا المبلغ قد تغلب على اعتبارات التعويض على المدى البعيد، لكن هذا يعني أن أبناء القتلى المغاربة وأحفادهم حين يقيمون معاملات المطالبة بالتعويض، تقوم السلطات الاسبانية بإبراز التسويات الموقعة من ذوي القتلى آنذاك وعندها لا يبقى لهؤلاء الأبناء والأحفاد الكثير ليفعلوه. أما فئة الأحياء من قدماء المقاتلين، فإن المرتبات التي يحصلون عليها والتي لم تواكب التضخم منذ أكثر من خمسين سنة فلا يحصلون عبرها إلا على مبالغ سخيفة لا تتجاوز في بعض الأحيان عشرة يورو. الجنسية الإسبانية هناك فئة أخرى حالفها الحظ وهي فئة قدماء المحاربين الذين بقوا في إسبانيا أو أصبحوا مجنّسين بفضل سكنهم في سبتة ومليلة. فهؤلاء المغاربة الاسبان أصبحت أوضاعهم وأوضاع أبنائهم وأحفادهم الاقتصادية على المدى البعيد أفضل في شكل عام من أولئك الذين بقوا في المغرب، إضافة إلى الميزات التي تقدمها الجنسية الإسبانية في سياقها الأوروبي. في الأربعينات والخمسينات كانت الفرصة متاحة لكثير من قدماء المحاربين المغاربة ممن أثبتوا خدمة مشرفة في الحرب الأهلية للحصول على الجنسية الإسبانية، لكن كثيرين لم يستغلوا هذه الفرصة لسببين: الأول أن إسبانيا آنذاك لم تكن تتمتع بالجاذبية الاقتصادية التي تتمتع بها اليوم، بل إن أوضاع كثير من المغاربة آنذاك كانت أفضل من الأوضاع الاقتصادية لكثير من الإسبان. والسبب الثاني هو الفكرة السائدة عند كثيرين آنذاك أن التجنس بالإسبانية يعني آلياً التحول من الإسلام إلى المسيحية. إلى جانب هؤلاء وأولئك كانت هناك، كما يوضح الكاتب الصحافي محمد بلال أشمل، قلة قليلة واعية لم ترد هذه الجنسية كبرياء واعتزازاً بالوطنية المغربية الى أن جاءت الفرصة المواتية حتى وقت قريب. المقارنة الفرنسية في أوروبا حدثت في 2006 سابقة، في أعقاب عرض الفيلم الحربي «بلديون» الذي هز الرأي العام الفرنسي، ودفع الرئيس الفرنسي جاك شيراك آنذاك الى مساواة رواتب قدماء المحاربين من الدول المستعمرة برواتب قدماء المحاربين الفرنسيين. لكن هناك فارقاً هاماً بين قدماء المحاربين في الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية وأولئك الذين خدموا في جيش فرانكو في الحرب الأهلية أو بعدها. فبينما يُنظر إلى الحرب العالمية الثانية على أنها صراع تحرري لإنقاذ أوروبا من براثن الاحتلال النازي، كان للمغاربة فيها دور تحريري بطولي، فإن المزاج العام في اسبانيا الديموقراطية ينظر إلى الحرب الأهلية الإسبانية بوصفها انقلاباً ضد حكم جمهوري منتخب وحرباً شرسة أخضعت اسبانيا لديكتاتورية قاربت الأربعة عقود، وبالتالي من الصعب تكوين نظرة متعاطفة مع جنود لعبوا دوراً حاسماً في انتصار الديكتاتورية وترسيخها مهما كانت دوافعهم. ربما ولهذا السبب تختلف مقاربة المنظمات الأهلية المغربية تجاه هذه الفئة. فبينما كانت المطالبات بالاعتراف بالدور الهام للمغاربة في الحرب العالمية الثانية بصفتهم أبطالاً محررين، فإن المطالبات بالتعويض لقدماء جنود الحرب الأهلية الاسبانية تركز على صفتهم ضحايا لهذه الحرب سيقوا إليها كرهاً أو خداعاً أو استغلالاً باعتبار أن بعضهم تم تجنيدهم وهم أطفال، كما يذهب إلى ذلك عبدالسلام بو طيب رئيس مركز الذاكرة المشتركة والمستقبل. مهما كان من أمر، فإن هذه الجهود للتعويض لم تحرك الحكومة الاسبانية. يشير الأمين الرقيبات رئيس الشؤون الاجتماعية لجمعية قدماء المحاربين المغاربة إلى أن هناك تعاطفاً من جانب العسكريين الإسبان مع هذه المطالب، لكن ليسوا هم من يستطيع تحويل هذا التعاطف إلى نتائج. يقول مسؤولو فرع الجمعية في مدينة القصر الكبير حيث يوجد عدد من قدامى الحرب الأهلية والريغولاريس إنهم يسيرون كل عام في 30 حزيران إلى سبتة لهدفين: الأول، حضور المراسم الاحتفالية للريغولاريس كونهم أعضاء في جمعية أصدقاء هذه الوحدات، والثاني للإشارة إلى حقوقهم التي لم يأخذوها بعد... ربما احتاج قدماء الريغولاريس في المغرب إلى فيلم سينمائي من وزن «بلديون» للحصول على بقية مما يستحقون في سنواتهم وشهورهم القليلة الباقية.